د. محمد السعيد إدريس
أسوأ ما كان «الإسرائيليون» يجبرون على رؤيته، هي تلك المشاهد الخارقة للوعي الزائف الذي كافحوا لسنوات طويلة ممتدة منذ تأسيس «إسرائيل» لفرضه، ليس فقط على الشعب الفلسطيني والشعب العربي بكافة امتداداته على الأرض العربية، بل على كل العالم. الصورة «الكابوس» هي صورة أبناء فلسطين، وهم يقتحمون أسوار العزل التي تكمن داخلها دويلة الاحتلال أملاً في الزحف إلى داخل الوطن الفلسطيني والعودة إليه. لم يحدث أن عاش قادة «إسرائيل» الرعب، كما عاشوه يوم الجمعة الفائت واليوم الجمعة، وإلى أن يأتي موعد ذكرى النكبة. لم يحدث أن جهّزوا كل هذه الاستعدادات لمنع أن يفرض المشهد نفسه، أي «مشهد العودة» الذي يعتبرونه قادراً على نسف كل ما قاموا ويقومون به لفرض روايتهم أن الأرض هي أرضهم «الموعودة من الرب»، وأن حروبهم كانت حروب تحرير وحروب استقلال. أن ينجح فلسطيني واحد في أن يعود إلى ما يعتبره وطنه وأرضه، فهذا في مقدوره نسف كل عمليات «كيّ الوعي» التي قاموا ويقومون بها ضد الشعب الفلسطيني والشعب العربي وشعوب العالم لمحو الرواية العربية عن «الوطن السليب» و«الأرض المنهوبة». أن يصر الفلسطينيون على تنظيم مسيرات العودة إلى الوطن كل عام في هذا الوقت ابتداءً من يوم الأرض يوم 30 مارس/ آذار، فهذا بمقدوره خلخلة أركان أسطورة الزيف «الإسرائيلية» التي روّجوا لها في كل العالم، ولا يريدون لهذا العالم أن يعرف أو أن يرى غيرها.
في قمعهم الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت عام 2002 تبنّى قادة جيش الاحتلال مصطلح «كيّ الوعي» الفلسطيني، وكان أملهم هو فرض «الوعي البديل»، وظلّوا منذ ذلك الوقت وهم يخوضون حرب «تزييف الوعي» للشعب الفلسطيني وللعالم كله، لكنهم كانوا يصدمون في كل مرة بأن الوعي الحقيقي يترسّخ أكثر، وأن عملية الكيّ تلك تزيده اشتعالاً وتقويه وتزيده صلابة، بدليل أن سياسة اعتقال الأطفال الفلسطينيين أصبحت أحد أعمدة استراتيجية الأمن «الإسرائيلية»، فاليوم يوجد أكثر من 350 طفلاً فلسطينياً في سجونهم، حسب بيانات «نادي الأسير» الفلسطيني. والصورة التي جرى تداولها على نطاق واسع بوسائل التواصل الاجتماعي منذ أيام لطفل مدينة الخليل محمود يوسف إسماعيل ماضي، البالغ من العمر 14 عاماً، وعشرات جنود الاحتلال يقتادونه من منزله معصوب العينين ومكبل اليدين، والذعر يملأ عيونهم، هي الصورة البديلة التي فرضت نفسها لتؤكد ترسّخ الوعي بالوطن وبحقوقه، وتجدّد حلم العودة الذي يكاد يخنق كل تفاصيل «المشروع الصهيوني» في فلسطين.
مسيرات العودة هذه المرّة لها مذاق خاص وصادم للكيان وقادته ومن يدعمونه ويحالفونه، لأنها تجيء لتفسد عليهم جميعاً «العرس» الذي يرتّبون له، والذي أرادوا أن يكون عرساً مزدوجاً: الاحتفال بالذكرى السبعين لتأسيس «إسرائيل» (ذكرى يوم النكبة) في الرابع عشر من مايو/ أيار المقبل، والاحتفال بنقل السفارة الأمريكية من مكانها في تل أبيب إلى مكانها الجديد في القدس الشرقية المحتلة.
ففي إطار الاستعدادات على حدود قطاع غزة، تم إرسال آلاف الجنود من لواء «ناحل» ولواء «جفعاني»، ووضعت الأسلاك الشائكة وعدد كبير من القناصة، والمهمة الأساسية لكل هؤلاء هي منع أي فلسطيني من تسلق الجدار الأمني واقتحام الحدود المفروضة والدخول عنوة إلى «إسرائيل» (إلى الوطن السليب). كانت التعليمات التي أعطيت لكل الألوية والقناصة هي إطلاق الرصاص الحيَّ ضد المسيرات الفلسطينية. إيزنكوت أعطى هذه الأوامر في احتفال تبديل قادة قسم الاستخبارات، وهو يدرك مدى خطورة نجاح فلسطيني واحد أن يعود عنوة إلى فلسطين، أن يعيد ويجدد العودة كحق وطني، هو يدرك أن العودة الفلسطينية كحق، تعيد الحق في الوطن وتنسف كل زيف الروايات «الإسرائيلية».
رغم كل ذلك نجح الفلسطينيون يوم الجمعة الماضي في تكريس حق العودة، وها هم اليوم الجمعة يجدّدون هذا النجاح بامتياز، لأنهم استطاعوا في أن يؤكدوا للعالم أن الصراع الذي يخوضونه ضد الاحتلال هو صراع بين الحق والباطل، بين الضحية والجلاد.
نجح الفلسطينيون أيضاً بامتياز، لأنهم بات في مقدورهم تحويل مسيرات العودة واستعدادات إطلاق يوم الزحف العظيم إلى انتفاضة شعبية جديدة قادرة على تأكيد أن الشعب الفلسطيني بمقدوره تخليق الأمل بالنصر من رحم كل إحباط. أمل جديد ينتزعونه من قلب اليأس، وللعودة مجدداً بفلسطين قضية ملهمة قادرة على إسقاط كل مسيرات الخضوع والمذلة والهوان التي فرضت عليهم لسنوات طويلة.