أنطون شلحت
يترقّب كثيرون هذه الأيام ما قد تسفر عنه تحقيقات بوليسية مُتشعبة تجري في دولة الاحتلال الإسرائيلية مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو حول عدة شبهات فساد، من تداعيات بعيدة المدى. وعلى مدار أكثر من عام مضى، كان الاهتمام في المقام الأول مُتركزًا على تلقي نتنياهو هدايا/عطايا من رجال أعمال بخلاف القانون، في مقابل منحهم امتيازات تعود على رساميلهم بالنفع. غير أنه في الآونة الأخيرة انتقل التركيز على محاولاته الدؤوبة الرامية إلى السيطرة شبه المُطلقة على وسائل الإعلام، المكتوبة والإلكترونية والمرئية، أو على وجه الدقّة التحكّم بخطابها حيال أدائـه العام، بحيث لا يتعدّى هذا الخطاب غاية "التغطية الإيجابية" له ولأفراد عائلته. وهذا هو ما بات ماهية ثلاثة ملفات من مجموع أربعة ملفات رئيسية تتمحور حولها تلك التحقيقات، وهي معروفة إعلاميًا بأرقامها المتسلسلة 1000 و2000 و3000 و4000، وأضيف إليها مؤخرًا ملف خامس رقمه 1270 ينطوي على شبهة بمحاولة التدخل في مجرى محاكمة منعقدة حول مصاريف زائدة لا لزوم لها أنفقتها زوجته على منازلهما الخاصة "على حساب الدولة".
ويقرّ إعلاميون كُثر في دولة الاحتلال بأن هذه المسألة ليست عابرة قطّ. ففي حال نجاح الزعيم، الذي يقترب حكمه من استكمال عقد متواصل من السنوات، في أن تصطف معظم المنابر الإعلامية المتنافسة التي تغطي الأحداث السياسية وغيرها إلى جانبه، باستطاعته تحقيق غايات كثيرة بينها: تخريب دور هذه المنابر كـ"رقابة مستقلة"؛ توجيه مواقف القراء والمستمعين والمشاهدين؛ المضي خطوات بعيدة إلى الأمام نحو تعزيز مكانته كرئيس للحكومة، وهو منصب غير محدود المدة من حيث عدد الولايات.
وداخل ذلك الإقرار، يُشار إلى أنه قبل إشهار تلك التحقيقات بسنوات كثيرة وما تكشفه بشأن علاقة الزعيم بالإعلام، استعان نتنياهو بالصحيفة الإسرائيلية اليومية المجانية "يسرائيل هيوم"، التي صدرت في تموز/ يوليو 2007، من أجل الدفاع عن حُكمه، والحفاظ على سياسة دولة الاحتلال، وتكريس هيمنة اليمين على مناحي الحياة كافة. ومنذ ذلك الوقت تساعده هذه الصحيفة في غسل دماغ ملايين الإسرائيليين المقتنعين بأن عليهم تأييده وتأييد سياسته الاستيطانية والعنصرية. وهؤلاء يقرأون يوميًا من الصحيفة، مثلًا، بأنه إذا سقط نتنياهو وإذا قامت دولة فلسطينية فهي ستشرع بإسقاط الصواريخ على رؤوسهم وتقتلهم. كما أنها تعلّمهم أن يكونوا متطرفين وعنصريين ضد الفلسطينيين والعرب على الدوام، ولديهم جاهزية ذهنية ونفسيّة قصوى لذلك.
ولا يفوت البعض الإدراك بأن نتنياهو لم يخترع سياسة دولة الاحتلال منذ إقامتها وما آلت إليه في الوقت الحاليّ. وهو لم يخترع أيضًا استخدام صحيفة من أجل صناعة الرأي العام، ولا اختلق التورط في فضيحة المال- السلطة- الصحيفة. كل ذلك تم قبله بزمن طويل. فمثلًا في منتصف سبعينيات القرن العشرين الفائت قرّر ب. ج. فورستر، رئيس حكومة جنوب أفريقيا، التي كثيرًا ما تتم المقارنة بينها إبان حكم الأبارتهايد وبين دولة الاحتلال، أن الدفاع عن دولة الفصل العنصري يتطلب القضاء على "راند ديلي ميل"، وهي صحيفة باللغة الإنكليزية قادت الصراع ضد الأبارتهايد. وهنا دخل إلى الصورة لويس لويت، وهو الثريّ اليهوديّ الأميركيّ شلدون إدلسون (مموّل "يسرائيل هيوم") في تلك القصة. وكان لويت رب مال محليًا محافظًا وعنصريًا. ووافق فورستر على منح لويت أموال الجمهور سرًّا من أجل شراء "راند" وإسكاتها إلى الأبد. وكانت "راند" في حينه تمرّ بأزمة مالية. ومع أن مقاومة الأبارتهايد لم تكن تحظى بالشعبية قبل أربعين عامًا، فإنها لم تُبع للويت. وفي واقع إسرائيل حاليًا، كان الفشل في شراء "راند" بمثابة اللحظة التي يئس فيها نتنياهو من محاولة السيطرة على صحيفة "يديعوت أحرونوت" الأوسع انتشارًا إسرائيليًا، وقرّر إقامة صحيفة خاصة به. وهذا بالضبط هو ما قرّره فورستر عندما وجد نفسه على نفس المفترق وأمام المفارقة عينها. عندها أمر فورستر بإقامة صحيفة، وتمت إقامتها. كان اسمها "المواطن"، وصدرت باللغة الإنكليزية لأنها كانت تهدف الى غسل دماغ البيض الذين يتحدثون الإنكليزية، ومن يقرأون الإنكليزية في شتى أرجاء العالم. ولم يكن الناشر سوى لويت، الذي حصل على الأموال من الحكومة سرًّا. لكن صحيفة "المواطن" تكبدّت خسائر جمّة. وعندما تم الكشف عن أنها مُولّت من جيب الجمهور، تم فرض الاستقالة على فورستر، فالعنصريون هناك لم يتمكنوا تحمّل رئيس حكومة أقام صحيفة بشكل سري، هدفها التهليل له ولسياسة حكومته، وزعمت أنها صحيفة شرعية. لكن العنصريين في إسرائيل لا يزعجهم هذا بتاتًا، على حدّ ما يقول أحد كتاب الرأي في صحيفة "هآرتس".
هناك مسألة أخرى تتداعى إلى الأذهان مما ذُكر إلى الآن، وترتبط بالوهم القائل إن الرقابة التي تمارسها المنابر الإعلامية في دولة الاحتلال مُستقلّة تمامًا، وإن الصحيفة التي سعى رئيس الحكومة إلى استمالتها مناهضة للسياسة الإسرائيلية العامة. فهذا ما تُبدّده شذر مذر تقارير تتناول أداء هذه المنابر، لا سيّما أثناء فترات الحروب، وتؤكد أنه على الأقل منذ حرب تموز/ يوليو 2006 على لبنان، مرورًا بالحروب الدورية على قطاع غزة، اتسم أداؤها بخصيصة "خوض الحرب حتى اللحظة الأخيرة"، مع وجود استثناءات قليلة لا تكاد تُذكـر. وقبل سنوات من سكّ مصطلح "ما بعد الحقيقة"، الذي من مراميه الإشارة إلى نهج تجاهل الحقائق الموضوعية لصالح تأجيج العواطف والإيمان الأعمى، وكذلك قبل أن يتنبأ أحد باحتمال صعود دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة، كانت أغلبية منابر الإعلام في دولة الاحتلال حافلة بالقرائن على نأيها عن الحقيقة، كما يتحاشى الشيطان المياه المقدّسة.