هاني حبيب شهدت الساعات الأخيرة، إذا لم نقل الأيام الأخيرة، موجة هائلة من التسريبات، بين إشاعات ومعلومات وأسرار، تتعلق بما بات يسمى «بصفقة القرن» وذلك على هامش، وربما في قلب اجتماعات منتدى دافوس،
هذا المنتدى الذي في الأصل يبحث في الجوانب الاقتصادية لعولمة العالم، إلاّ أن مؤتمره الأخير في هذا المنتجع جاء بالنسبة للشرق الأوسط، وعلى الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وكأنه انقلب لبحث هذا الملف تحديداً بالنظر إلى تلك التسريبات التي لا تخلو من تعمد في إرسال رسائل متعددة ومتشابكة منسقة تستهدف بالأساس المسألة الفلسطينية بوجه عام، ورسائل تحذير وإنذار وضغط، من أطراف عديدة موجهة تحديداً إلى القيادة الفلسطينية التي خطت خطوات جريئة في مواجهة كافة الإجراءات والقرارات الأميركية الإسرائيلية، انطلاقاً من الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، وما تبع هذا القرار من إجراءات تتعلق بتقليص الدعم المالي الأميركي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين.
ورغم أن الحديث عن هذه الصفقة لم يتوقف منذ أشهر عديدة، سواء لجهة مهندسيها، مستشاري ترامب، كوشنير وغرينبلات وسفير واشنطن لدى إسرائيل فريدمان، أو لجهة الحديث عن إتمام بلورتها بحلول أواخر آذار القادم، رغم ذلك، فإن «مسوّدات» وسيناريوهات هذه الصفقة تم تسريبها عبر وسائل عديدة، وعلى ألسنة قادة عرب ونصائح أوروبية، فرنسية على وجه الخصوص، بضرورة عدم تجاهل هذه الصفقة والانحناء أمام ما ستتمخض عنه من عواصف هوجاء، تليق بطبيعة الرئيس الأميركي ترامب، الذي أشارت التسريبات إلى أنه بصدد طرح صفقته دون الإصغاء إلى رد الفعل الفلسطيني بعد أن تم ترتيب هذه الصفقة مع حليفه الإستراتيجي وصديقه الشخصي، بنيامين نتنياهو.
ونحن في هذا السياق، في حلٍّ من استعراض ما تسرّب من هذه الصفقة بالنظر إلى نشرها بشكل مدهش ومثير من خلال كافة أشكال وسائل الإعلام، إلا أنه يحضرنا أن هناك تناقضاً ملموساً في صياغة ما تم نشره حول هذه الصفقة الذي قيل: إن الرئيس الأميركي سيطرحها بشكل مفصّل بعد الانتهاء من صياغتها بشكلها النهائي، على الأطراف المعنية، الفلسطينية والإسرائيلية والعربية وربما على المستوى الدولي، والأوروبي على وجه الخصوص، وأن هذه الصفقة غير قابلة للتعديل أو الإضافة، وينتظر أن تحدد الأطراف الموقف منها بالرفض أو القبول، بشكل واضح ومحدد، هذا من جهة، بينما تشير التسريبات، من جهة أخرى إلى أن واشنطن ستتخذ المزيد من الإجراءات العقابية والانتقامية ضد السلطة الوطنية الفلسطينية، من بينها اشتراط تحويل مساعدات أميركية إلى السلطة، بوقف رواتب أسر المعتقلين والشهداء واعتبار السجناء الفلسطينيين خارجين عن القانون، والاحتفال بوضع حجر الأساس للسفارة الأميركية بالقدس في 15 أيار المقبل، والذي يوافق ذكرى مرور 70 عاماً على قيام دولة الاحتلال على أنقاض الوطن الفلسطيني، وعدم التمديد لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، كل ذلك قبل أن يطرح ترامب صفقته، اعتقاداً منه ومن إدارته أنه بذلك يمكن الضغط على القيادة الفلسطينية وإرسال رسالة واضحة بجدية الخطوات الانتقامية الأميركية، إثر الموقف الفلسطيني الذي رسمه الرئيس عباس في خطابه أمام المجلس المركزي، والإعلان الفلسطيني بأن واشنطن أخرجت نفسها من العملية التفاوضية كوسيط وحيد بالتوازي مع جهود سياسية ودبلوماسية فلسطينية لحشد دولي، أوروبي تحديداً، من أجل دور أساس للمنظمة الدولية في العملية التفاوضية مستقبلاً كبديل للدور الأميركي السابق، كل هذه الخطوات، تقول التسريبات من أجل فرض العودة الفلسطينية إلى المفاوضات. فإذا كان ترامب سيطرح صفقته، من دون نقاش أو تفاوض، فلماذا إذا هذه المفاوضات التي يتوجب على الجانب الفلسطيني العودة إليها؟!
إن كافة المؤامرات والخطط والصفقات السياسية السابقة، والحروب القتالية على الأرض والإنسان الفلسطيني، لم تنجح في «التهديد الوجودي» للقضية الوطنية الفلسطينية، إلا أن مثل هذه التهديدات بات أكثر وضوحاً وشراسة من أي مؤامرة سابقة، وهي تطال بالفعل وليس لصياغة بيانية، تهديداً وجوداً للقضية الوطنية الفلسطينية، ولا يمكن وقف هذا التهديد إلاّ بالتمسك بالأرض الفلسطينية والإصرار من كل إنسان فلسطيني بكل مقومات الحياة، باعتبار ذلك هو الضمانة الوحيدة لرد هذه الصفقة إلى أصحابها، وأخشى أن ذلك ليس بالأمر السهل على ضوء جملة من التشابكات، إلاّ أننا لا نملك أي خيار آخر!