راسم عبيدات هناك إجماع على أن وعد بلفور الذي صدر قبل مئة عام، أسس لمأساة شعبنا المستمرة بفصولها وتجلياتها المختلفة، حيث نشهد "تسونامي" إستيطاني، قائم على التطهير العرقي، وبما يشمل كل مساحة فلسطين التاريخية،
وإن كانت القدس تتصدر هذا المشهد وهذا الإستهداف، بهدف تغيير الواقع الديمغرافي فيها بشكل كبير لصالح المستوطنين، حيث تتوالى المخططات والمشاريع، التي جوهرها التخلص من أكبر عدد من الفلسطينيين المقدسيين، من خلال الإنفصال عنهم، وكذلك بالعمل على توسيع مساحة القدس، لكي تصبح 10% من مساحة الضفة الغربية، وبما يضم المستوطنات في الجنوب الغربي للمدينة وشرقها إلى "القدس الكبرى"، المشروع الذي تأجل نقاشه وإقراره مؤقتاً، وبما يعني ضخ 150 ألف مستوطن إلى المدينة وإخراج 100 ألف عربي منها، مشروع ما يسمى بوزير شؤون القدس زئيف إليكن، وكذلك سبق ذلك مشاريع ومخططات في نفس الإطار والهدف للوزير وعضو الكنيست حاييم رامون ومعه مجموعة من القادة العسكريين والأمنيين المتقاعدين ومشروعي زعيم حزب العمل السابق اتسحق هيرتصوغ ومن ثم مشروع عنات باركو عضو الكنيست الليكودي، وجوهر كل هذه المشاريع سياسي بإمتياز، يقوم على طرد وترحيل العرب خارج حدود بلدية "القدس".
وعد بلفور لم يشكل جريمة كبرى بحق شعبنا الفلسطيني إرتكبتها حكومة الإنتداب البريطاني فقط، بإعطاء من لا يملك لمن لا يستحق، فهذا الوعد الذي أعطى لليهود حقوقاً سياسية وإقامة وطن قومي لهم في بلد لا يشكلون فيه سوى (3%)، في الوقت الذي لم يعترف فيه لسكان وأصحاب الأرض الأصليين والذين يشكلون (97%) من سكانه سوى بحقوق مدنية ودينية، أي الأقلية أغلبية والأغلبية أقلية..
هذا الوعد كان له أهداف سياسية، من ضمنها خدمة المشروع الإستعماري في المنطقة القائم حسب اتفاقية سايكس- بيكو على تقسيم المنطقة العربية بين بريطانيا وفرنسا، وبأن يشكل إقامة هذا المسمى بالوطن القومي اليهودي حاجز صد وفصل ما بين بلاد الشام ومصر على وجه التحديد، وبأن تصبح الحركة الصهيونية رأس الحربة لهذا المشروع، في محاربة أي حركة تحرر وطني عربي، وأي نظام رسمي عربي وطني تقدمي، يريد أن يخرج الأمة العربية من نير الإستعمار، أو يعمل على تنمية وتطوير البلدان العربية وتوحيدها ضمن مشروع عربي تحرري نهضوي، ولذلك وجدنا الحركة الصهيونية وتجسيدها المادي إسرائيل قد شاركت إلى جانب بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر، وكذلك في عام 1967 استكملت إحتلال ما تبقى من فلسطين واحتلال سيناء المصرية والجولان السورية.
وشعبنا الفلسطيني الذي طرد وهُجّر أكثر من 70% من سكانه قسراً بفعل العصابات الصهيونية التي احتلت أرضه وطردته وشردته، وأحلت مكانه المستوطنين الغزاة في أكبر عملية تطهير عرقي عرفها التاريخ البشري الحديث، ولم تكتف تلك العصابات بالطرد والتهجير، بل عمدت إلى تدمير مدنه وقراه (531) قرية ومدينة جرى تدميرها، واستتبع ذلك الإستيلاء على أملاك اللاجئين الفلسطينيين، ومن ثم العمل على بيعها بالمزاد العلني.
وهذا الوعد الذي شكل سلسلة مآسي ونكبات مستمرة ومتلاحقة لشعبنا الفلسطيني، حيث نشهد الآن قيام أسوأ نظام فصل عنصري في فلسطين، يتجلى من خلال الإستيطان في القدس والضفة الغربية والطرق الإلتفافية والطرق والشوارع الخاصة بالمستوطنين، ناهيك عن التهويد المستمر والتغيير في الواقع الديمغرافي لصالح المستوطنين، ولذلك نشهد عمليات هدم لقرى عربية بكاملها، كما حصل في قرية العراقيب في النقب التي هدمت للمرة العشرين فوق المئة وقرية أم الحيران.
وعد بلفور جعل ستة ملايين فلسطيني يعيشون في مخيمات اللجوء في الدول العربية المحيطة بفلسطين في ظروف وأوضاع تفتقر إلى أدنى شروط الحياة الإنسانية، بل الحروب المذهبية العربية المتواصلة، فرضت عليهم نكبات ومآسيٍ جديدة، وكذلك أبقى ستة ملايين فلسطيني آخر يعيشون تحت الإحتلال، في ظل أسوء نظام فصل عنصري، يستهدف الشعب الفلسطيني في ووجوده وأرضه وكل مكونات ومركبات هذا الوجود.
حكومة بريطانيا ورئيس وزرائها اليمينية المتطرفة تيريزا ماي التي تفاخر بدور بريطانيا في إقامة دولة الإحتلال، والإعلان بكل وقاحة عن نيتها الإحتفال بالذكرى المئوية لهذا الوعد المشؤوم، يؤكد بأن هذه الدولة الإستعمارية، هي من يتحمل المسؤولية المباشرة عن نكبات شعبنا المستمرة والمتواصلة بفعل وعدهم المشؤوم، وهذه الرغبة بالإحتفال تهدف إلى قطع الطريق على مطالبة شعبنا لها بالإعتذار عن هذا الوعد والمطالبة بالتعويضات، وكذلك هو يشكل استخفاف بحقوق شعبنا، ولذلك لا مناص من خوض نضال شعبي ورسمي وقانوني وحقوقي ضد الحكومة البريطانية، والضغط عليها من أجل تصحيح هذا الخطأ التاريخي والإعتراف بحق شعبنا في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة.
بل وأبعد من ذلك حمل الحكومة البريطانية على تحمل مسؤولياتها التاريخية والسياسية والأخلاقية عن هذه الجريمة، وتحميلها كل التبعيات التي ترتبت على هذا الوعد ومطالبتها بدفع مئات المليارات من الدولارات كتعويضات لشعبنا الفلسطيني عن النكبات والظلم والإضطهاد والتشريد الذي لحق به، بفعل وسبب وعدهم المشؤوم هذا، ولذلك يجب على القيادة الفلسطينية والجماهير الشعبية أن تغادر هذا الصوت الخافت في الإحتجاج والمطالبات، نحو رفع الصوت والفعاليات الشعبية والجماهيرية والملاحقات السياسية والقانونية للحكومة البريطانية، وحشد أوسع حالة تضامنية بريطانية وعربية واسلامية ودولية لحمل هذه الدولة الإستعمارية على تصحيح خطئها، وممارسة أوسع شكل من التحركات والضغوطات من خلال اعتصامات مستمرة وضخمة أمام كل السفارات والبعثات البريطانية في العالمي العربي والإسلامي وفي كل دول أوروبا وأمريكا اللاتينية وغيرها من دول العالم.
وأيضاً علينا أن نقدر عالياً ونثمن وندعم كل التحركات والمطالبات التي يقودها برلمانيون وأعضاء في مجلس اللوردات البريطاني ودبلوماسيون ومؤسسات وفعاليات بريطانية أكاديمية وتربوية ورجال دين، الذين دعوا وحثوا الحكومة البريطانية على الإعتراف بدولة فلسطين إلى جانب دولة الإحتلال على حدود الرابع من حزيران 1967، كما علينا تثمين دور زعيم حزب العمال البريطاني جيرمي كورين الذي رفض المشاركة في حفل مئوية "وعد بلفور"، ومهم جداً أيضاً أن نفعل بعثاتنا وسفاراتنا وكل أنصارنا وأصدقائنا في الخارج من أجل ممارسة ضغوط جدية على الحكومة البريطانية، لكي تصحح خطأها التاريخي وتمكن شعبنا الفلسطيني من ممارسة حقه في الحرية والإستقلال وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.