تيسير الغوطي نعيش هذه الأيام الذكرى السنوية لاستشهاد المفكر والرسالي العظيم الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، وكما هو الحال في ذكرى الشهداء العظام، يتبارى الأتباع والمحبون والمريدون في استرجاع وتذكر الصفات الخالدة والمحطات العظيمة والمواقف المعجزة للشهداء العظام،
اعترافاً بفضلهم وسبقهم وأملاً في أن يستمر الأتباع على ها النهج وهذه الصفات.
الاقتراب من العظام والرساليين ليس بالأمر السهل أو الهين، والاقتراب من الدكتور المعلم فكراً وثقافة ووعياً وثورة وانسانية أكثر رهبة وأعظم اجلالاً لما تركه في الساحة الاسلامية عموماً والفلسطينية خصوصاً من إبداعات معجزة ومفخرة لكل الإسلاميين في مقدمتهم محبوه وحواريوه، فالشهيد الدكتور لم يكن مجرد قائد تاريخي لفصيل فلسطيني فقط، ولم يكن مجرد مثقف ومفكر إسلامي أثرى المكتبة الإسلامية بعدد من الكتب والمقالات، ولم يكن مجرد منظر لمجموعة من الأفكار والنظريات، ولم يكن مجدداً آخر على طريق تجديد الفكر الإسلامي وإزالة ركام الجهل والتعصب والتقوقع عن مبادئه وأطروحاته السمحاء، كما لم يكن مجاهداً آخر على طريق التصدي للمشروع الصهيوني ضد الأمة وقلبها فلسطين، بل كان ذلك كله جزءًا من الشهيد المفكر الدكتور، حيث يضاف إليه حضور البعد الإنساني في حياة الشهيد الدكتور، حيث كان الإنسان بآماله وآلامه وهمومه حاضراً لا يغادر الدكتور الشهيد الشقاقي ولا يغادره هو، وكان الأمل والثقة بإمكانية تجدد ذلك الجيل القرآني الفريد الذي رباه صلى الله عليه وسلم في مكة، حيث وجدنا فيه الصورة الأكثر صدقاً وإقناعاً بإمكانية استعادة ذلك النموذج الحرائي العظيم، والتي تشعرنا أن النصر ممكن رغم حراب بني صهيون ووحشية النمط والظلم الذي يحكم عالم اليوم، وتخاذل أبناء جلدتنا من قيادات وحكام واستلابهم لصالح الظلم والاستكبار العالمي.
لقد جاء المفكر الشهيد الدكتور إلى النور بمجموعة مبدعة من الأفكار والمبادئ التي ميزت فكر حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، ورفعتها إلى صدارة الحركات الإسلامية الجهادية المعاصرة، وجعلتها رؤية متجددة في العمل الإسلامي، وإسهاماً فاعلاً ومؤثراً في تطوير العمل الإسلامي المعاصر والجهادي الممارس للجهاد ضد العدو المركزي للأمة الإسلامية، وحاضنة يمكن أن تستوعب كل الاجتهادات الأخرى خاصة الإسلامية منها، وحائدة في الوقت نفسه عن الصراعات الجانبية مع الاجتهادات المخالفة في بعض أطروحاتها، والتي يمكن أن تحيد بالحركة الإسلامية بل والأمة بأسرها عن رسالتها السامية للعالم أجمع وعن هدفها الأساسي في التحدي والتصدي للمشروع الاستعماري ضد الأمة وبالتحديد ضد المشروع الصهيوني في فلسطين، فما أروع التأمل في هذه المقولة المفخرة للشهيد الدكتور حيث يقول: «إن الإسلام هو خيار الأمة وهويتها وهو القادر على بعثها وإحيائها وإخراجها من غابة النظام الدولي، وهو القادر على تحقيق وحدتها واستقلالها ونهضتها، هذه هي المسألة الأساسية التي أجادل حولها، أما أخطاء الإسلاميين قلت أو كثرت، اقترنت بهذا الفريق منهم أو لم تقترن، فهذه مسألة نضال مستمر في سياق عملية تاريخية لا تتوقف، ونحن نعيش مخاضاً عسيراً سينتهي بالتأكيد إلى خطاب إسلامي يقدم وعياً مطابقاً للعالم يشخصه بدقة ويقدم إجابات مقنعة لأزمة المنطقة، إن لم يكن لأزمة العالم».
ونحن في هذه السطور لسنا في مجال عرض وتعداد هذه الأفكار والإسهامات المبدعة التي لا تحدها ولا تستوعبها بكل تأكيد مجموعة من السطور والصفحات المكتوبة، لكن من الضروري في ذكرى رحيل الشهيد المبدع أن نتقرب من بعضها ونذكر أنفسنا بها، محاولة متواضعة في نبش الركام _على طريق إزالته_ الذي تراكم عليها بفعل انحراف البعض وغفلة البعض الآخر من المحبين والمريدين.
لقد ركز الدكتور ضمن ما ركز عليه على أن فلسطين هي القضية المركزية للحركة الإسلامية التي يجب أن تتوجه كل الجهود صوبها ونحوها، وأن النقد والنقد الذاتي هو أحد الوسائل الهامة لتصويب مسيرة الحركة وضمان عدم انحرافها عن الأهداف والمبادئ التي قامت لأجلها، وأن قبول الآخر والالتقاء معه على طريق تحرير فلسطين والاستفادة من إمكانيات الجميع في هذا الطريق، هو أحد العوامل المساعدة في قرب النصر والتحرير، وأن الاهتمام بالجماهير وتحسس آلامها وآمالها والاهتمام بقضاياها هو أقصر الطرق لتحقيق خاصية جماهيرية الحركة الإسلامية، وجعل الجماهير حاضنة لمفردات وأفراد الحركة الإسلامية الجهادية ورافدة لها بالعناصر اللازمة والضرورية لاستمراريتها، وأن المزاوجة بين الجهاد وفلسطين والإسلام هو الطريق الأقصر لتحرير فلسطين فضلاً عن تقديمه الإجابة الأمثل على تساؤلات ونهج الذين تصدوا للعمل من أجل فلسطين سواء كانوا إسلاميين أو وطنيين، حيث جاء ذلك رداً على طرحهم فلسطين بلا إسلام أو إسلام بلا فلسطين، وأن الإيمان والوعي والثورة هي الأسس الضرورية لبناء الفرد المسلم الحركي القادر على تحمّل أعباء مسيرة التحرير والتصدي للأعداء وتحقيق النصر للنموذج الرسالي وإعادة الإسلام إلى حكم البلاد والعباد.
اليوم ونحن على أبواب الذكرى الثانية والعشرين لاستشهاد الدكتور المفكر أبا إبراهيم مطالبون بوقفة صادقة وأمينة مع النفس، لنقيم فيها موقفنا ومدى قربنا أو بعدنا عن الأفكار والمبادئ التي بشّر بها الدكتور المعلم وقدّم دمه - وكذا الآلاف من الشهداء- قرباناً لنشرها وتبنيها بين أفراد الأمة عموماً وأبناء الحركة الإسلامية المجاهدة خصوصاً، تماماً كما نحن مطالبون بتطبيق وتمثيل تلك المبادئ والأفكار واقعاً في حياتنا ومن ثم في حياة أبناء الأمة من حولنا.
تجديد الدكتور الشهيد في ذكراه لا يعني الوفاء لدمه ولحبه المسكون في قلوبنا جميعاً فقط، بل يقدم إجابة واضحة ودلائل دامغة أن حركة الجهاد الإسلامي لم تستنفد أغراضها، ولم تنته مبررات وجودها على الساحة، بل ما زالت هذه الحركة بأطروحاتها الفذة وإمكاناتها المتواضعة قادرة على أن تكون في رأس الحربة الموجهة ضد المشروع الاستعماري الغربي الذي يستهدف الأمة حضارة وتاريخاً وشعوباً، وقادرة على أن تكون المحدد لبوصلة الصراع الكوني في فلسطين، والدافع للأمة كل الأمة للتوجه لنحو فلسطين، ولتكون كما أرادها الدكتور الشهيد رحمه الله حين قال ضمن مقولاته: «نحن ندرك أن حركة الجهاد لن تكون قادرة على تحرير فلسطين بمفردها، ولكن يكفينا فخراً أنها ستبقى جذوة الصراع مع الكيان الصهيوني مشتعلة حتى تفيق الأمة وتتقدم بكامل طاقتها نحو فلسطين».
هكذا وهكذا فقط يمكننا أن نجدد الدكتور الشهيد في ذكراه، ونحقق الوفاء لدمه ولمحبتنا له، ونضمن الاستمرار والتقدم لمسيرة هذه الحركة المجاهدة حتى تحقيق إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة.