تؤكد لنا قراءة التاريخ البشري منذ البدء أن تكرار التجارب ميزة من أهم ميزاته، وخاصة أن الإنسان أثبت تاريخياً أيضاً أنه لا يعتبر إن لم يختبر، وهو ما أوجد مصطلح الحتمية التاريخية التي فرضته الشعوب عبر إصرارها على تكرار تجارب سابقة،
فاشلة كانت أو ناجحة، بإيجابياتها وسلبياتها التي قد تكون هي الأكثر نسبة وتأثيراً على التجربة، ودون الاستفادة من عِبَرها لتجاوز السلبيات والمطبات في تلك التجارب، ودون العمل على تطوير وسائل وأساليب جديدة في الانتقال من مرحلة إلى أخرى دون مشقة التكرار تلك، حيث أن كل تجربة لها مواصفات وشروط خاصة قد تكون في بعض الأحيان صعبة وقاسية لتفرض بدورها أثماناً وضريبة لا بد أن تدفعها هذه الشعوب لتضمن انتقالها من حال تاريخية بمواصفات ومعايير معينة إلى حال جديدة من المفترض أن ترتقي بهذه الشعوب إلى مستوى مختلف وأفضل وليس العكس، في ظل وجود تجارب تاريخية وحالية وقعت في مطب الإنتقال المعاكس من الأفضل إلى الأسوأ، ما يفرض وقعاً أشد على هذه الشعوب لتصحيح مسارها والالتحاق بالسياق التاريخي المفترض لها والذي يحقق الانتقال بالاتجاه الصحيح.
وتعتبر القرون الوسطى لأوروبا من أهم التجارب التاريخية التي خاضتها شعوب تلك المنطقة بالدم والحديد والنار، وراح ضحيتها ملايين الأرواح، كما تغيرت خرائط البلدان والممالك على وقع الحروب والتناحر الداخلي والخارجي، وسحقت مجتمعات وبلاد بين أحجار رحى الاقتتال المذهبي والطائفي، كل ذلك في سبيل العبور والانتقال إلى حال أفضل، وتعتبر تفاصيل ما جرى خلال تلك الفترة المظلمة في أوروبا تعتبر من أقسى ما مرّ على الشعوب تاريخياً من حيث البطش والقسوة والممارسات المجرمة التي ارتكبت تحت عناوين وشعارات تنوعت واختلفت، وفق تناقضات أو توافقات على مصالح سياسية أو اقتصادية، أو دينية ومذهبية، أو عرقية ومناطقية، وغير ذلك من عناوين كانت كفيلة بتحويل حياة شعوب تلك البلاد على اتساع مساحتها، وفي ظل امبراطوريات استعمارية حاكمة فيها، إلى جحيم حقيقي كانت عامة الناس وقوده الذي لا ينضب، نيران اشتعلت في كافة المناطق بعيدان الجهل والفقر والتعصب الديني والتطرف المذهبي، وكان لبعض الكنائس ودور العبادة والمرجعيات على اختلاف مشاربها، أدواراً مهمة في إشعال نار الفتنة والحروب الأهلية التي حصدت بدورها الأرواح وخربت البلاد، واستطاعت شعوب تلك المنطقة بعد أن ذاقت الحديد والنار خلال قرون أن تكتشف أسباب واقعها السيء، وأن تسلك دروب الخروج من هذا الواقع، لتنتقل من عصور مظلمة إلى عصور ارتقت فيها هي وبلدانها إلى مستويات عليا في جميع جوانب الحياة من أقصاها إلى أقصاها.
يدَّعي التاريخ أن العرب خلال قرون أوروبا الوسطى لم يعانوا بالشكل الذي عانت منه أوروبا، بل كانوا حينها في عصور مزدهرة إلى حد ما، لكن المؤسف أنهم مع مرور الوقت انغمسوا في عصور الانحطاط للعالمين العربي والإسلامي ولأسباب يختلف المؤرخون عليها كما اعتادوا في كل القضايا، ففي الأوقات التي بدأت شعوب الغرب بالخروج من عصورها المظلمة باتجاه النور، لاقاهم العرب وهو يرتحلون إلى تلك العصور، حتى وصلنا إلى وقتنا الحالي الذي تبين فيه الخيط الأبيض من الاسود، واتضحت معالم قرون العرب الوسطى بشكل جلي في ممارساتهم على الأرض، وسياساتهم فيما بينهم ومع الآخر، وعلى منابرهم ووسائلهم الإعلامية بتنوع أشكالها.
وبمقاربة بسيطة بين واقع العرب اليوم وبين ما كان عليه واقع أوروبا في عصورها المظلمة نجد تشابهاً كبيراً بينهما من حيث مفردات الأزمات والتفاصيل على الأرض، واللاعبين الأساسيين والمؤثرين بالمصائر والأرواح، والأسباب والذرائع والمبررات لكل هذا الدم والخراب والتعدي على الخاص والعام والمقدس دينياً ومجتمعياً ووطنياً، وكالعادة التي أثبتها التاريخ أن لا أحد يتعظ مما حدث لسابقيه من أحداث ويعتبر منها، لم يفكر العرب في أن يتجنبوا عوامل الإنضاج البدائية للشعوب التي استخدمت سابقاً وهي الحديد والنار، والنحو باتجاه التفكير والعقل والاستفادة من تجارب الماضي وعِبَره، بل على العكس تماماً، فلقد تمسكوا بإصرار غريب بتلك الأدوات، وأعادوا استخدام نفس الأساليب والأليات، مضافاً إليها نكهتهم الخاصة التي أمعنت في الإساءة إلى جميع مكوناتهم الفكرية والدينية والمعرفية والتاريخية وغير ذلك من مكونات، ما جعل الأخرين في باقي أنحاء المعمورة يقفون مذهولين من هول ما يجري من ممارسات على أرض الواقع ابتعدت إلى الحد الأقصى عن حدود المعقول والمقبول والمنطق.
سياسات وممارسات وارتكابات جاهلة ومخطئة أوقعت عالمنا العربي تحت وطأة معايير وقوانين سيدها الجهل وتنخرها القبلية والطائفية والارتهان والارتزاق، ويكللها العنف والإرهاب، ولقيت كل الدعم والتسهيلات من جهات وأطراف تضمر كل العداء لهذا العالم، حيث وجدت في هذه السياسات والممارسات وأصحابهما ما لم تكن تحلم بوجود حده الأدنى لتتمكن من تحقيق النسبة الأعلى من بنك أهدافها الموضوع منذ ماضٍ بعيد بهدف تحقيقه في المستقبل البعيد، كما أدخلت منطقتنا في ظروف استنسخت ظروف أوروبا في قرونها الوسطى، على أمل أن لا تستهلك الوقت كله، وكل الأمل ان تخرج شعوب هذه المنطقة بعد انتهاء تجربتها المكررة بنتائج إن لم تكن أفضل فلتكن بحدها الأدنى مستنسخة عما أنتجته الشعوب والأنظمة في أوروبا.