أحمد جميل عزم تُرى لو حدثنا الحاجة حليمة عن رواية "العجوز والبحر"، لمؤلفها آرنست همنغواي، ماذا ستقول؟
في كتابها "يافا أم الغريب"، تكتب أسماء ناصر أبو عياش، عن والد الطبيب أيمن مشعل، في عمّان. فعندما لجأ من قرية زكريا، قرر أن يشتري بخمسين جنيها، أي ثلث ما كان معه، مذياعاً. ولمّا كان المبلغ شبه ثروة، ارتج من حوله. وقال له ابنه الأكبر: "أمذياعٌ ولا مكان إقامة لنا؟ دعنا نشتري أرضاً أو بيتاً نقيم فيه". فارتج الأب أيضاً، وصرخ: أأشتري أرضاً وبيتاً وأنا لي بيتي هناك؟ هل تظنني أستبدله؟ ورد الابن بأسى "ليش راديو يابا؟". فاستهجن الأب السؤال وأجاب: "حتى أسمع إيمتى راح يقولولنا نرجع ع البلاد"!
عندما "وطأت" أسماء يافا أول مرة، بعد عودتها مع زوجها "الفدائي" العتيق أبو حمزة، خريج علم الاجتماع من الجامعات الألمانية، والتي تركها العام 1968 ليدخل الأرض المحتلة في مجموعة مسلحة، بحثت عن هاتف تحدث أبيها، فقد أوصاها الذهاب لمنطقته. ورد عليها من مخيم الزرقاء، وقالت له: "بابا لم أجد مكانا اسمه المنشية". بكى في المخيم، وبكى خمسة وسبعين سنة هي عمره، فقد سألت سائق تكسي إسرائيلي، ظنته فلسطينياً، ولم يعرف، واتضح أن والده يهودي سوري، وآخر كان يهودياً هاجر والده من اليمن. في النهاية وجدت مسجد حسن بيك، فسألت عجوزاًً هناك، فأجابها: "عن أي منشية تسألين؟ لقد أزالوها".
في كتابها، كتبت أسماء عن لحظة عودة أهل يافا (الآباء أو الأبناء والأحفاد) من الشتات، بعد عشرات الأعوام من الانتظار. قابلت الناس وسألتهم كيف عادوا. بعضهم بدأ القصة من شتاته في المخيم، وانضمامه للثورة.
كتبت عن والدها: "بعد أربع سنوات من العودة تمكن زوجي من استصدار تصريح زيارة لوالدي ذلك الكهل اليافاوي...". وتضيف كأنها تتحدث عن حليمة التي سأذكرها بعد قليل: "مثلما يفرح الوالد بمولوده، ومثلما يشعر الطفل نحو والديه بالامتنان كونهما منحاه بإذن الله حقاً في المجيء إلى العالم، كان يعتمل في داخلي هذا الشعور.. شعور الوالد والولد تجاه والدي، أقصى ما يتمناه العودة إلى يافا، وحققت له ما تمنى".
عندما جاءت الحجة نعيمة، الشهر الماضي، إلى فلسطين، أخذها "صديقنا" طارق البكري إلى قريتها بيت نبالا: "كنت بدايةً في غاية التوتر لحرصي على مشاعرها، إذ إن بيت نبالا، وخلافاً لبعض القرى المهجرة، تم مسحها تماماً، وما بقي منها هو المدرسة التي أصبحت مشتلاً، وبئر القرية، وبعض القبور". كانت تسأل عن كل قرية، و"فجأة ابتسمت نعمة وبدأت تقص علينا عشرات الحكايا، فيضان من الذكريات.. لوهلة تصبح المستعمرات المحيطة غير مرئية، ويتحول المكان إلى الأسود والأبيض".
واتصل أستاذ المدرسة، الكاتب والأديب زياد خداش، بطارق، وقال له "عمتي" من هناك. وذهب طارق وزياد والحجة حليمة، من مخيم الجلزون إلى بيت نبالا، زاروها، وقد سماها الاحتلال "نبالات". في الطريق غنت وندبت عبدالقادر الحسيني، وامتلأ كل فرح الأرض في وجهها وهي تقول: "هون كانت دارنا"، و"هي بيرنا" (كانت البئر هي ما بقي)، وجلست على طرفها، والدماء تندفع في وجهها كلون التطريز في ثوبها. كانت صديقتها تركع في صلاتها، بثوبها بتطريزه الهندسي البديع، كأنها تقبل الأرض، وصديقتها الثالثة تجمع "الدوم" لتأكله.
على بحر يافا، عادت حليمة؛ لعبت بالماء. وصوّرها طارق واحدة من أجمل صوره، وصوّر "الحجات الثلاث" بكل صمت الدنيا، بلوحة من أثوابهن، ينظرن للبحر، أجمل صوره.
وكتب زياد: "عمتي حليمة أمام بحر يافا بعد 78 سنة من رؤيتها له وهي طفلة لأول مرة، "أيام البلاد". خلعت حذاءها، لعبت بالموج كالأطفال، حدقت كثيراً في البحر، وسقط من فمها كلام لم أفهمه، كلما سألتها ماذا قلت عمتي؟ ردت: ولا إشي ولا إشي يا عمتي. داخل السيارة في الطريق إلى رام الله قالت لنا: ليش ما خليتوني كمان شوي في البحر يا عمتي؟ بكى طارق. لم أجب أنا".
وفي روايته التي أوصلته لجائزة نوبل، تحدث همنغواي عن عجوز يذهب في البحر 84 يوماًً، ليصيد سمكة ولا يفعل، ويبقى يقول: "الإنسان قد يهزم مرات ولكنه لا ينكسر".