د. نهى خلف شهادة الصحفي اليافاوي عيسى العيسى "النكبة" ليست حدثا محددا في الزمان.. النكبة مسلسل مستمر منذ أكثر من قرن، منذ أن صاغ "هرتزل" مشروعه وثبته "بلفور" بوعده.. النكبة بدأت منذ أن بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين وأنشأت أول مستوطنة فيها.
النكبة ليست قصة واحدة بل قصص متعددة لبشر تم اقتلاعهم من أرضهم ومدنهم وقراهم، تعذبوا وشردوا وقتلوا.. النكبة هي مجازر جماعية وجرائم َضد الإنسان والإنسانية وهي مستمرة يومياً بصمت وصبر وأحياناً بهبات ورصاص ومجازر وصراخ وبكاء.. النكبة هي الشبكة "العنكبوتية" الضخمة والممتدة عبر العالم من الأكاذيب الصهيونية التي تحاول تبرئة الجلاد واتهام الضحية والنكبة هي أيضاً مسؤولية كل الذين ساهموا في استمرارها.
في عام 1949، سنة واحدة قبل وفاته، كتب الصحفي اليافاوي، عيسى العيسى (1878ـ 1950)، مؤسس جريدة "فلسطين"، شهادة صادقة عن كل المآسي التي أصابت مدينته ووطنه حيث كانت يافا من أول المدن الفلسطينية المستهدفة لأنها شكلت رمزاً للتواجد الثقافي والرقي الفكري والتطور الصناعي والانتعاش التجاري لفلسطين، مما كان يقف عائقاً أمام الأكاذيب الصهيونية التي ادعت أن فلسطين صحراء جافة سيتوكلون هم مهمة زرعها وإنعاشها، ولكنهم نهبوها وزرعوها ألغاماً ورعباً ودماراً وموت.
شهادة عيسى العيسى شهادة حية للمأساة رغم مرور سبعة وستون عاماً عليها، كما إنها تحتوي على نقد لاذع لكيفية التعامل مع الفلسطينيين في دول اللجوء، وتوجه نصائح للعرب جميعاً، لو كانوا قد استمعوا إليها، ربما لم يكن قد تدهور الوضع العربي إلى ما هو عليه الآن. فهل من سخرية القدر أو من تقصير العرب أن الدولة الصهيونية التي أسستها مجموعات إرهابية يهودية متطرفة أصبحت قوة عسكرية إقليمية، بل دولية؟ بينما أن الدول العربية "المسالمة" وليدة اتفاقيات سايكس- بيكو والتي أسست بعد استئصال فلسطين، وعلى حسابها، أصبحت هي الآن أسيرة لجماعات متطرفة تشبه بالمصادفة التاريخية الجماعات الإرهابية الصهيونية الأولى؟!
فبمناسبة ذكرى النكبة الثامنة والستون، نستعيد هنا شهادة الصحفي عيسى العيسى والتي نظمها كقصيدة بعنوان "فلسطين وبابل"، يصف في كل سطر منها بدايات لقصة لم تنته، من بين قصص الشتات والمأساة المستمرة...
فلسطين وبابل
قفوا واسمعوا بالله ما أنا قائل وما في فلسطين الشقية نازل
فما نكبة الأندلس للعرب بالتي تشابه ما يلقاه أو ما يماثل
هنا أمة قد هجرت من بلادها وقد أقفرت أديارها والمنازل
إلى النيل حتى نهر دجلة شردت شيوخ وأطفال ونساء حوامل
ومن ضفة الأردن كانت جموعها إلى بردى عن بعضها تتسأل
سرت بهم شرقاً وغرباً وقبلة ونحو التقاء الرافدين قوافل
ولم يبقى في تلك الربوع سوى الذي به مرضا أو أقعدته الوسائل
فذا ولد يشكو لفرقة أهله ووالدة قد أصبحت وهي ثاكل
وأم رؤوم تطلب الدفء والغذا وليس لها بين الخلائق عائل
تخلف عنها زوجها حينما قضى شهيداً عن الأوطان وهو يناضل
وتلك فتاة باعت العقد والحلي لتحفظ عرضاً سامها فيه سافل
وذاك فتى تلقاه والبؤس ظاهر عليه ولا شغل له فهو عاطل
وذاك ثري مترف بات معدماً ويعوذه ما يكتسبه ويأكل
وذا تاجر يبكي على رأس ماله وذلك فلاح وها ذاك عامل
وهذا محام ليس من يستشيره وذلك قاض في المحاكم عادل
وذلك أستاذ نأى وتفرقت تلاميذه أيدي سبا وهو ذاهل
وذاك طبيب حال دون اشتغاله بمهنته القانون والمنع شامل
وأكثرهم قد خاب المرزق سعيه ولازمه الخذلان فيما يحاول
وثم آلاف جندلتهم يد الردى ولم يبقى منهم إلا القلائل
تراهم وقد غاضت مياه وجوههم قد إستسلموا لليأس واليأس قاتل
وهمهم أمر الرجوع لموطن بهم كان بالأمس القريب يفاضل
به احتشدت بعد الجلاء عناصر قد اكتملت للشر فيها عوامل
تخلص منها الغرب عمدا فبادرت إلى الشرق والشرق المهدد غافل
وغير فلسطين من الشرق لم تجد له بلدا سادت فيه القلاقل
تزعمه قوم فكانوا بلاءه وأغراضهم قد أثبتتها الدلائل
وفي القدس قامت للزعامة ضجة وعن غيرها لم يشغل القوم شاغل
تعاموا عن الأخطار وهي محيطة بأوطانهم حتى دهتها النوازل
فنال بذاك الصهيونيون مأربا له قد سعوا من قبل والسعي فاشل
*** *** ***
أعاد لنا التاريخ قصة بابل وفي كل قطر قد نزلناه بابل
إذا ما حللنا منه بعض بلاده نقابل كالأسرى فيه ونعامل
وفي دول الأعراب كان رجاؤنا فغاب الرجا منذ دب فيها التخاذل
*** *** ***
بني العرب إني مخلص في نصيحتي وقد كثرت في النصح مني والرسائل
بني الشرق لا تنسوا بان مصابنا مصابكم يوماً إذا لم تقاتلوا
ويا وطني صبراً على الضيم والأذى فإن الذي تلقاه لا بد زائل
بقلم عيسى العيسى صاحب جريدة "فلسطين"
طبعت ووزعت في بيروت في 15 كانون الثاني عام 1949
* كاتبة وباحثة فلسطينية في الشؤون الاستراتيجية والدولية- بيروت.