عبد الناصر عوني فروانة في الثاني والعشرين من نيسان/أبريل عام 1979، اعتقل الأسير العربي اللبناني "سمير القنطار" بعد اجتيازه الحدود وتخطيه الصعاب، ومواجهة شرسة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، دفاعاً عن فلسطين ومقدساتها، ومن أجل حرية شعبها وترابها وسمائها.
قاوم "سمير" بشراسة، وقتل وجرح العديد من جنود الاحتلال، قبل أن تنفذ ذخيرته، ويصاب بعدة رصاصات وينزف دمه ليروي ثرى الوطن العربي الفلسطيني، فيقع في قبضة المحتل الإسرائيلي ولم يكن حينها قد تجاوز السابعة عشر من عمره، ليمضي تسعة وعشرين عاماً ونيّف، متنقلاً ما بين غرف وزنازين سجونه. قبل أن يتحرر في إطار صفقة التبادل مع "حزب الله" منتصف تموز/يوليو 2008.
وخلال سني اعتقاله ونظرا لتزايد أعداد الأسرى العرب في سجون الاحتلال وارتفاع أرقامهم بشكل لافت، وتقديرا وتكريماً ووفاءً لكل هؤلاء العرب الذين ناضلوا وضحوا واعتقلوا لأجل فلسطين وقضيتها العادلة، ودعم حقهم بالحرية والعودة إلى أهلهم وأوطانهم، اعتمد ذاك التاريخ (224) الذي أعتقل فيه "القنطار" يوماً للأسير العربي، باعتباره الأسير العربي الأقدم في السجون آنذاك، والأكثر مضي للسنوات في سجون الاحتلال الإسرائيلي. ومنذ ذلك التاريخ والشعب الفلسطيني يحييه -حتى يومنا هذا- بالشكل الذي يليق بهم، وفاء لمن كانوا أوفياء لفلسطين.
لم تكن القضية الفلسطينية، في يومٍ من الأيام، قضية تخص الفلسطينيين فقط، بل كانت ومازالت هي قضية العرب في كل مكان، ولأجلها ودفاعاً عنها قدّم العرب آلاف الشهداء، فضلا عن المئات من العرب الأسرى، إذ لم تخلُ دولة عربية من المشاركة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي أو التمثيل داخل سجونه ومعتقلاته منذ احتلاله لباقي الأراضي الفلسطينية عام 1967، فكان هناك أسرى مصريون ولبنانيون وأردنيون وسوريون وعراقيون ومغربيون وسودانيون وجزائريون وتونسيون وسعوديون وليبيون وغيرهم.
وهؤلاء جميعاً يشكلون مفخرة للشعب الفلسطيني. فهم الذين سطروا سوياً مع إخوانهم الفلسطينيين أروع صفحات الوحدة والتلاحم والنضال العربي المشترك في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وهم من سطروا كذلك صفحات مضيئة خلف قضبان سجونه. لذا ستبقى الذاكرة الفلسطينية تحفظ أسماءهم عن ظهر قلب. وكيف للذاكرة الفلسطينية أن تنساهم، وهم جزء من التاريخ الفلسطيني وجزء أصيل من تاريخ عريق سجلته الحركة الوطنية الأسيرة خلف قضبان سجون المحتل، وخطت حروفه بالألم والمعاناة ودماء الشهداء. فهم عانوا من السجن وقسوة السجان كما عانينا، وتعرضوا مثلما تعرضنا له من تعذيب وحرمان ومعاملة قاسية، ولربما معاناتهم تضاعفت بسبب حرمان الغالبية العظمى منهم من رؤية عائلاتهم طوال سنوات اعتقالهم الطويلة. الأمر الذي دفع أمهات فلسطينيات إلى ابتداع ما يُعرف بـ "ظاهرة التبني" للتخفيف من معاناتهم وتقليل آثار الحرمان، ودعم صمودهم وتعزيز إرادتهم.
ويحلّ يوم "الأسير العربي" هذا العام في ظل استمرار وجود نحو ثلاثين أسيراً عربياً من سوريا ولبنان ومصر والأردن، وأقدمهم هو الأسير العربي الأردني "عبد الله أبو جابر" المعتقل منذ قرابة ستة عشر عاماً. كذلك وجود الأسير العربي السوري "صدقي المقت" من هضبة الجولان السورية المحتلة وهو الأكثر قضاء للسنوات من بين الأسرى العرب القابعين اليوم في سجون الاحتلال، حيث سبق وأمضى سبعة وعشرين عاماً، قبل أن يعاد اعتقاله قبل عام تقريباً.
كما ويحل يوم "الأسير العربي" هذا العام في ظل غياب رمزه الأسير المحرر "سمير القنطار" الذي اغتالته طائرات الاحتلال في العشرين من كانون أول/ ديسمبر 2015. مما يولد لدينا شعوراً بالحزن والألم لفراقه، وبالمقابل يدفعنا لمزيد من الفخر باستشهاده، وبكل الأسرى العرب الذين ناضلوا وضحوا من أجل فلسطين وقضايا الأمة.
"سمير القنطار".. غيابك اليوم لن يؤثر على مكانتك الرفيعة في قلوبنا، ورحيل جسدك عنا لن يمحو اسمك المحفور في ذاكرة وطن وشعب أحبك. وأن استشهادك يدفعنا نحو مزيد من الاحترام والتقدير لكل أمثالك من العرب الذين شاركونا في النضال ضد الاحتلال ومن أجل الحرية والاستقلال.
وسيبقى "يوم الأسير العربي" يوماً ساطعاً في التاريخ الفلسطيني المعاصر.
* باحث مختص بقضايا الأسرى، ومدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى والمحررين.