راسم عبيدات الإحتلال يواصل حربه الشاملة على المقدسيين في كافة مناحي حياتهم، بغرض حسم مسألة السيطرة والسيادة على المدينة بشكل نهائي، عنوان حربه على المدينة وسكانها العرب أن "القدس موحدة" و"عاصمة أبدية" لدولة الإحتلال، ولذلك تجد هذه الحرب المسعورة تطال أنشطة ذات بعد اجتماعي أو ثقافي،
ليس له علاقة بـ"أمن" الإحتلال كما يتذرع دائماً، فما علاقة "أمن" الإحتلال بمنع إقامة "ماراثون رياضي" حول أسوار مدينة القدس كانت تنوي تنظيمه ورعايته مؤسسة الدار الثقافية التي جرى إستدعاء مديرها السيد سامر نسيبة للتحقيق معه في مقر المسكوبية، وتحذيره من أن إقامته يعرضه للسجن..؟ وما علاقة منع الغرفة التجارية من إقامة معرض لمنتوجات الحرف اليدوية لتجار البلدة القديمة في المسرح الوطني "الحكواتي" بأمن الإحتلال كذلك..؟
المسألة أبعد من تلك الحجج والذرائع، فجوهر الهجمة والحرب على المقدسيين الهدف منه إلغاء ونزع الطابع العربي- الإسلامي عن المدينة وتهويدها أرضاً وأسرلتها سكانها وعياً، فقد أخفت خريطة "رسمية"، بشكل متعمد، وزعتها وزارة تابعة لحكومة الإحتلال الصهيوني على السياح الأجانب الذين يصلون إلى القدس المحتلة، المواقع التاريخية، الإسلامية والمسيحية، ولا يظهر منها إلا موقع إسلامي واحد وخمسة مواقع مسيحية فقط، والخريطة الموزعة من قبل "وزارة السياحة الإسرائيلية" للسياح الجانب، ليس فقط تتعمد التحريف، بل غيرت فيها أسماء مساجد وكنائس ومناطق في القدس مستبدلة جزءاً منها بأسماء إستيطانية كما كتبت أسماء أماكن أخرى بشكل خاطىء وتتجاهل بقصد ذكر وجود معالم إسلامية ومسيحية تستحق لفت نظر السائح إليها.
ويعتبر تحريف أسماء الشوارع والمعالم والأحياء في مدينة القدس المحتلة أحد أساليب الاحتلال الصهيوني لتهويد المدينة، في محاولة لـ"خلق" صورة ذهنية محرّفة حول هوية القدس، مستهدفين بذلك كل مارّ أو مقيم جديد فيها، وتحديداً السياح الأجانب الذين يتجولون في الشوارع معتمدين على خرائط رسمية توزعها مجاناً "وزارة السياحة" التابعة لحكومة الاحتلال.
هذه الإستراتيجية الإسرائيلية يمكن تسميتها بـ"التهويد الصامت"، ترمي "وزارة السياحة" في كيان الاحتلال على المدى البعيد إلى محو هوية المدينة الفلسطينية من ذهن العالم، وذلك عن طريق توزيع خرائط ودلائل سياحية وتوظيف مرشدين سياحيين يسردون رواية الاحتلال الصهيوني المغلوطة حول المدينة، وفي المقابل التضييق على عمل الإرشاد السياحي من الجانب الفلسطيني بطرق عدة، ومحاسبة كل مرشد سياحي معتمد إذا ثبت أنه استخدم الرواية الفلسطينية أثناء جولته.
ففي الخريطة المعتمدة يوجد اقتراحات لزيارة 57 معلماً سياحياً في المدينة، من بينها معلم إسلامي واحد فقط،و 5 معالم مسيحية، مقابل عشرات البيوت اليهودية والمدارس الدينية والكنس المشار إليها في الخريطة بوضوح.
وتغيب المواقع الاسلامية كلها تقريباً عن الخارطة، فعلى الرغم من وجود الكثير من المواقع الاسلامية التي يزورها السياح في البلدة القديمة، والتي تعتبر نقاطاً تاريخية هامة في المدينة، إلا أنه لا يظهر إلا قبة الصخرة، تحت اسم آخر.
وبحسب الخريطة تمت الإشارة إلى منطقة المسجد الأقصى على أنها "جبل الهيكل"، إلى جانب تجاهل الإشارة إلى وجود المسجد القبلي داخل المسجد الأقصى، وكتابة "إسطبل سليمان" بدلاً من المسجد المرواني. هذا إلى جانب الإشارة إلى البيوت الفلسطينية التي استولى عليها المستوطنون اليهود عن طريق جمعية "عتطرات كهانيم" الاستيطانية، في الحي الإسلامي من البلدة القديمة، مما يعطي انطباعاً لدى السائح غير المطّلع على أن هذا الحي يهودي.
"التهويد الصامت" انتقل الى مجال آخر، ألا وهو إستهداف أحياء ومنازل مقدسية عربية بالهدم وطرد وتهجير سكانها تحت حجج وذرائع "بناء حدائق وطنية"، والهدف هنا واضح، انتزاع السيطرة على "المناطق الفلسطينية" وتنمية السياحة والمحافظة على الآثار التاريخية. حيث تسعى بلدية الاحتلال بالقدس لنقل سيطرة المناطق ذات الكثافة الفلسطينية العالية ظاهرياً إلى وكالة البيئة الإسرائيلية والتي بدورها ستقوم بهدم منازل الفلسطينين وترحيلهم في سبيل إنشاء حدائق وطنية عامة يرتادها السكان.
ولا تقتصر آثار هذه الخطة على الجيل الحالي من الفلسطينين، بل إنها تقضي على أي أمل مستقبلي لإسكان الجيل القادم. تقول جيف هالبر، من لجنة مناهضة هدم المنازل في "إسرائيل": "الحدائق الوطنية هي طريقة إسرائيلية رائعة لإخفاء جدول الأعمال الحقيقي، تهجير وهدم لمنازل الفلسطينيين، وتركهم دون أي بديل حقيقي، ولجان التأمين ستجد الأمر أسهل عليها خاصة أن المنفذ هو هيئة البيئة هذه المرة وليس البلدية".
وحسب هذه الخطة التهويدية المسماة بـ"الممر المقدس" سيتم هدم 13 منزلاً فلسطينياً في منطقة وادي الجوز، حيث اكتشفت هذه العائلات أنها تعيش رسمياً داخل حدود حديقة مدينة القدس، رغم أنها تأسست قبل 40 عاماً. كانت هذه الحديقة أول حديقة أعلن عنها الاحتلال في شرقي القدس وذلك في انتهاك واضح للقانون الدولي.
وتشير المخططات إلى سعي قوات الاحتلال لإنشاء شبكة طرق ومراكز سياحية للاتصال بين البلدة القديمة والمستوطنات، وهو ما سيسهل عمليات الاقتحام المستمرة للاقصى تحت ذريعة "السياحة والبيئة" أيضاً.
وبعيداً عن هذه الحجج، فإن قوات الاحتلال حريصة على السيطرة على هذه المنطقة لأن منازل الفلسطينيين تصلهم بالمسجد الأقصى مباشرة، عدا عن أن سلوان أصبحت نقطة اشتباك ساخنة بشكل منتظم بين الفلسطينيين والمستوطنين.
الهدف الظاهر الذي تدعية حكومة الإحتلال وبلديتها في القدس حماية الطبيعة والتراث والمواقع التاريخية وتسهيل الوصول إليها، فيما تشير تقارير حقوقية أن إعلان حديقة وطنية في تلك المنطقة يعتبر إجراءً متطرفاً لا يجب أن يطبق إلا في حالات لا يأخذ فيها التراث الطبيعي الأولوية المطلقة.
وبشكل عام؛ لا تعتبر بلدية الاحتلال بالقدس مصالح أو اهتمامات سكان شرقي القدس ضمن اعتباراتها، بل تستخدم هذه المبررات لتغطية عمليات الهدم والتهجير وتجنب الانتقاد الدولي لسلطات الاحتلال.
ويبدو أن سكان تلك المناطق في طريقهم لمواجهة موجة هجرة جديدة هذه المرة تحت ذريعة بناء "حدائق وطنية" و"تعزيز الأماكن السياحية". ما يفضي إلى تطويق البلدة القديمة أكثر من ذي قبل وتعطيل إمكانية وصول الفلسطينيين للمسجد الأقصى.
وليس هذه فحسب، بل معركة كسر العظم وحرب الإستنزاف، مستمرة على أكثر من جبهة، حيث صعّدت حكومة الإحتلال من إجراءاتها وممارساتها القمعية، ليس في إطار العقوبات الجماعية من إحتجاز لجثامين شهداء القدس، وترك الشهداء ينزفون حتى الموت، والتصفيات والإعدامات الميدانية، وهدم المنازل وسحب الإقامات "وتغول" و"توحش" الإستيطان، والإبعادات بالجملة عن الأقصى والقدس، والإعتقالات المستمرة للأطفال وفرض أحكام مشددة عليهم، بل شهدنا مع اقتراب "أعياد الفصح اليهودية"، زيادة غير مسبوقة في إعداد "شرطة" الإحتلال و"حرس حدوده" و"أجهزته الشرطية والأمنية" بمختلف مسمياتها أكثر من (1200) شرطي، وكذلك من أجل تسهيل دخول المستوطنين إلى المسجد الأقصى في تلك "الأعياد" بدون أي مواجهة أو تصدي لهم من قبل المرابطين والمرابطات وطلاب العلم، لم تكتف أجهزة الإحتلال "الأمنية"، بعمليات الإبعاد عن الأقصى والقدس، بل شنت حملة إعتقالات شرسة طالت عشرات المسنيين من المرابطين في الأقصى، فيما يؤشر إلى أهداف وأجندات مخفية يخططط لها الإحتلال بحق الأقصى والقدس.
نعم حرب إستنزاف مستمرة ومعركة كسر عظم متواصلة مع المحتل الذي يستخدم كل طاقاته وإمكانياته من أجل تهويد المدينة ونزع الطابع العربي- الإسلامي عنها، وهذه الحرب التي يقف المقدسيون على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم وقواهم المجتمعية والمؤسساتية صفاً واحداً في التصدي لها وإفشالها وفق قدراتهم وإمكانياتهم، بحاجة إلى أن يسندها دعم ومواقف جدية عربية وإسلامية على أرض الواقع، وليس لغواً فارغاً وعبارات نارية ترد في بيان هذه القمة أو تلك.