توافق اليوم الذكرى الـ14 لمعركة مخيم جنين شمال الضفة الغربية، والتي شكلت نموذجاً يتباهى به الفلسطينيون في الوحدة الميدانية بين فصائل المقاومة والقيادة المشتركة لمواجهة باسلة.
وجاءت معركة مخيم جنين ضمن اجتياح قوات الاحتلال للضفة الغربية ما يسمى "السور الواقي"، انتهت بمعركة قتل فيها 20 جندياً، واستشهد قرابة 60 فلسطينياً، وهدمت أجزاء كبيرة من المخيم.
وتعرضت كافة مدن الضفة الغربية لاجتياح قوات الاحتلال، وحاصرت مقر المقاطعة، حيث كان رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات فيه، واستشهد المئات من المقاومين والمواطنين، في عشرات الغارات التي عجزت عن إنهاء انتفاضة الأقصى.
صمود وتحدي
تحوّل مخيم جنين، خلال انتفاضة الأقصى لمعقل للمقاومة، ومنه انطلقت السرايا الأولى لكتائب شهداء الأقصى وسرايا القدس وكتائب القسام، التي نفذت سلسلة عمليات بطولة ضد الاحتلال، وتخللها تنفيذ عمليات مشتركة لكتائب الأقصى وسرايا القدس، ورغم اغتيال عدد كبير من القادة العسكريين والميدانيين للانتفاضة في المخيم، استمرت المقاومة والعمليات ما أثار ردود غضب للاحتلال الذي فشل في وقف العمليات، حتى أطلق رئيس حكومة الاحتلال ارئيل شارون آنذاك إسم "عش الدبابير"، على مخيم جنين.
وفي الساعة الواحدة من فجر 3-4-2002، شنت قوات الاحتلال هجومها الواسع على مدينة ومخيم جنين، بمشاركة المئات من أفراد "الوحدات المختارة" في جيش الاحتلال، بمساندة الطائرات والدبابات التي قصفت المخيم وحاصرته مع المدينة على مدار أسبوعين في الحملة التي أطلق عليها وزير الحرب ارئيل شارون اسم "السور الواقي".
مواجهات ومعارك
رغم تهديدات الاحتلال بعقاب المخيم والانتقام من أهله، فإنهم رفضوا المغادرة والتخلي عن المقاومة، والتفوا حولها وشاركوها في المقاومة والمعركة التي دارت في كل ركن وزاوية، لتتحوّل شوارع وأزقة المخيم لمسرح لمعارك عنيفة بين قوات الاحتلال والمقاومة الفلسطينية التي شكلت غرفة عمليات مشتركة ضمت مقاومي كتائب شهداء الإقصى، الجناح العسكري لحركة فتح، وكتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، وسرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية، ومجموعات من ضباط وأفراد الأمن الفلسطيني بقيادة الشهيد أبو جندل، إضافة للعشرات من المقاومين المتطوعين وأهالي المخيم والمدينة والبلدات والقرى المجاورة ومدينة طولكرم ممن حضروا للمخيم، ورفضوا الاستسلام مع مقاوميه رغم الحصار المشدد، والقصف الذي لم يتوقف.
وبمعنويات عالية، وإرادة قوية، وتحت راية الوحدة الوطنية ورغم إمكاناتها القتالية المتواضعة، خاضت المقاومة في المخيم معارك شرسة وضاربة مع الاحتلال ما اضطر لاستبدال قواته 3 مرات بإشراف شارون، حيث حضر شخصيا للإشراف على عمليات جيش الاحتلال الذي تعرّض لعدة كمائن أدت إحداها لمقتل 13 جندياً للاحتلال.
تدمير البنية التحتية
ورغم الحصار المكثف، والقصف المتواصل الذي أدى لارتفاع عدد الشهداء وسقوط العشرات من الجرحى، رفض المقاومون في المخيم الاستسلام والخضوع لتهديدات الاحتلال، الذي دمر كل مقومات الحياة في المخيم والمدينة، وعزلهما بشكل كامل عن العالم الخارجي، وقصف مولدات الكهرباء وخطوط المياه وشبكات الاتصالات التي قطعت وعاش الأهالي في عزله وظلام دامس، ورغم كلك ذلك ورغم النقص في المواد التموينية التف الأهالي حول المقاومة وتقاسموا الطعام والماء حتى نفد، وعانى الأطفال من نقص في الحليب واحتياجاتهم الرئيسية.
سلاح المقاومة
ويوثق أهالي المخيم في استحضار الذكرى، أن أهم ركائز معركتهم في مقاومة الاحتلال ودباباته سلاح "العبوات" التي صنعها المقامون في المخيم، فكانت من أكثر الوسائل القتالية التي تميزت بها المقاومة إذ ألحقت خسائر فادحة في الاحتلال، ونشرت وسائل الاعلام العبرية روايات لجنود الاحتلال الذين شاركوا في الهجوم على المخيم اعترفوا فيها بالخوف والقلق والرعب الذي عايشوه خلال تلك الأيام الحالكة، وقالوا "إنهم كانوا لا يجرؤون على الحركة والتنقل بسبب العبوات التي كانت تعترض طريقهم في كل زواية وشبر من المخيم"، وفي شهادة أخرى قال أحد جنود الاحتلال إن "الجنود حوصروا بين رصاص المقاتلين وعبواتهم الناسفة، فالعبوات كانت بانتظارهم في الشوارع، وبين الأزقة، وعلى بوابات المنازل، وحتى تحت مواسير المياه، ما أثار الرعب والخوف لدى الجنود".
رفضت المقاومة الخضوع والتراجع والاستسلام رغم سقوط مجموعة من قادتها ومجاديها وفي مقدمتهم الشهيد قائد سرايا القدس محمود طوالبة (أبو عبد الله)، وقائد كتائب الأقصى الشهيد زياد العامر، ومع اتساع نطاق المعارك، منع الاحتلال سيارات الإسعاف والفرق الطبية وطواقم الهلال الأحمر والصليب والأحمر ووكالة الغوث الدولية، وكافة المؤسسات الحقوقية والإنسانية ووسائل الإعلام والصحفيين من دخول المخيم، ونزف بعض الجرحى في الشوارع، في ظل عدم توفر الإسعاف والنجدة لهم حتى استشهدوا، ومنع الاحتلال نقلهم للعلاج في مستشفى الشهيد خليل سليمان الملاصق للمخيم.
الصمود الأسطوري للمقاومة، ورفض رفع راية الاستسلام وإعلان المقاومين من كافة الأجنحة العسكرية عن موقفهم القتال حتى النصر والشهادة، دفع الاحتلال لإرسال وحدات متخصصة في الاقتحامات للمخيم، وبعدما جوبهت بنيران المقاومة، استخدم الاحتلال البلدوزرات الأمريكية الضخمة "كاتلرز"، التي هدمت المنازل فوق رؤوس ساكنيها، وكانت حصيلة تلك العملية هدم 455 منزلاً بشكل كامل في أحياء الحواشين وجورة الذهب والساحة الرئيسة، إضافة لتدمير 800 منزل بشكل جزئي.
يقول أحد مقاومي سرايا القدس بالمخيم وأحد رفاق أبو عبد الله، إنَّ الشهيد طوالبة في أول أيام المعركة ذهب إلى أحد البيوت التي كان موجوداً فيه أهله، وبعد أن ودّع زوجته وطفلاه دعاء وعبد الله ارتدى بزته العسكرية وخرج لقيادة المجموعة المرابطة في حارة طوالبة، فقام على الفور بتلغيم بيته وجميع البيوت المجاورة، وبعد أيام قلائل عندما اقتحمت قوات الاحتلال المنطقة قام الشهيد القائد ورفاقه بتفجير عدد من العبوات الناسفة مما أربك جنود الاحتلال وأجبرهم على الانسحاب.
ويقول أحد شهود العيان: لاحظ الشهيد محمود عدداً من الجنود ما زالوا في منزله فقام بحركة سريعة تمثلت في هجوم معاكس، وفجّر عدداً من العبوات التي كان يحملها على ظهره مما أدى إلى مقتل 4 جنود على الفور.
في يوم الاثنين 742002 انتقل الشهيد محمود مع عدد من المقاومين منهم رفيق دربه الشهيد عبد الرحيم فرج، إلى منطقة جورة الذهب في المخيم حيث حوصر هؤلاء الشهداء في أحد المنازل فقامت طائرات الاحتلال بقصف المنزل مما أدى إلى استشهاد محمود ورفاقه.
يوم لا ينسى
أهالي المخيم الذين تعلموا تاريخ النكبة الأولى عام 1948 عندما طردوا وهجّروا من مدنهم وقراهم ولجؤوا إلى جنين، وأسسوا أول مخيم فيها، عاشوا تلك التجربة خلال مجزرة المخيم، فبعدما بدأت عمليات الهدم للمنازل جمع الجنود الأهالي في الساحات واعتقلوا الشبان والرجال، وشردوا النساء والأطفال والمسنين وأرغموهم على مشاهدة أبنائهم وأزواجهم يخضعون للتفتيش والاعتقال، بينما شردوا إلى ما بعد المجزرة ولأكثر من عامين إلى مدينة جنين والبلدات المجاورة، في منظر أعاد لهم صور النكبة، وهم يجبرون على الخروج بين الدبابات، بعدما دمرت كل مقومات حياتهم واعتقل كل رجالهم، وبعضهم نجا من الموت بأعجوبة.
.. في اليوم العاشر من المعركة، أكملت قوات الاحتلال هدم منازل الأحياء المذكورة وحاصرت من تبقى من المقاومين والأهالي في أحد المنازل مهددة بهدمه، ويتذكر المحرر النائب جمال حويل، تلك اللحظات بالقول "بعد الصمود البطولي شرعت البلدوزرات بهدم المنازل، لإرغامنا على الاستسلام وتضييق الخناق علينا، ولكن كان القرار الجماعي بالصمود والثبات والمقاومة حتى الرمق الأخير".
حويل، الذي كان مطلوباً لقوات الاحتلال منذ اندلاع انتفاضة الأقصى، بدعوى تأسيس وقيادة كتائب شهداء الأقصى، أضاف: "استمرت المعارك والاحتلال يطاردنا حتى حوصرنا في آخر منزل تبقى في وسط المخيم أكثر من 27 مقاتلاً، وبدأ الاحتلال بالضغط علينا ومطالبتنا عبر مكبرات الصوت بالاستسلام مهدداً بقصف المنزل علينا"، ويضيف: "ومع تدهور أوضاع المصابين منا، واستمرار تهديدات الاحتلال أطلقت نداءً عبر قناة الجزيرة للجميع أكدت فيه أن الاحتلال قرر ارتكاب مجزرة بحقنا، لكننا صامدون..".
نداء حويل، أثار ردود فعل غاضبة وبدأ تحرك واسع النطاق من قبل مؤسسات إنسانية ودولية وعدة أطراف حقوقية والصليب الأحمر، كما تدخل الرئيس الراحل ياسر عرفات، وعدة أطراف واستمرت الاتصالات والضغوط حتى تم التوصل لاتفاق قضى بخروج المقاومين، ولكن الاحتلال كما يقول حويل "حاول إرغامنا للخروج عراة فرفضنا وفضلنا الشهادة على ذلك، وبعد مفاوضات استمرت 12 ساعة تمكنت قوات الاحتلال من اعتقال المقاتلين"، ولدى خروجهم اصطف المئات من جنود الاحتلال مشهرين أسحلتهم نحوهم، ولكن قائد الحملة "الإسرائيلي" يقول حويل: "وقف أمامنا وأدى التحية العسكرية لنا أمام الصمود الأسطوري في مواجهة كل أسلحة الدمار "الإسرائيلية"".
نتائج المجزرة المعركة
استمر الاحتلال في حصار المخيم، ورفض السماح للطواقم والبعثات الدولية، وخاصة الطبية والإنسانية دخول المخيم، لإجلاء الضحايا والشهداء الذين دفن بعضهم تحت انقاض المنازل، ما أدى إلى تعفن الجثت، بينما تحولت ساحة مستشفى جنين لمقبرة مؤقته لجثت الشهداء، وفي نهاية المجزرة تبيّن أن قوات الاحتلال قتلت 63 شهيداً بينهم 23 مقاوماً، وقتل خلال المعارك مع المقاومة 23 جندياً، بحسب اعتراف الاحتلال، إضافة لإصابة العشرات من الجنود، وكانت حصيلة الاعتقالات المئات، لكن أفرج عن غالبيتهم، وما زال أكثر من 100 منهم يقبعون في معتقلات الاحتلال بينهم عدد من قادة المعركة والمقاومين ممن صدرت بحقهم أحكام بالسجن المؤبد ومدى الحياة.
كما لا يزال مصير إثنين من أهالي المخيم مجهولاً، ولم يعثر على جثتهم ولم يعترف الاحتلال باعتقالهم هما جمال الفايد، وهو معاق، ولطفي البدوي.
ورغم قرار مجلس الأمن بتشكيل لجنة تحقيق رسمية في أحداث المجزرة، إلا أن سلطات الاحتلال منعت اللجنة من الوصول، ولم يدخل القرار الدولي حيَّز التنفيذ، ورغم معاناة وتدهور أوضاع المخيم، فإنهم رفضوا المساعدات التي قدمتها الوكالة الأمريكية للتنمية.