مع كل عدوان تقوم به "إسرائيل" على شعبنا الفلسطيني، وسقوط كل شهيد، واستمرار الإستيطان و"تغوله" و"توحشه" وتواصل عمليات إقتحام المسجد الأقصى بشكل يومي واستفزازي، ومع إنسداد الأفق السياسي،
ورفض "إسرائيل" الوفاء بأي من التزاماتها فيما يتعلق بما يسمى "خارطة الطريق" نحو العودة للمفاوضات، من إطلاق سراح لأسرى الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل "أوسلو" إلى وقف الإستيطان أو تجميده، وفي ظل استمرار وتواصل الهبة الشعبية التي دخلت شهرها الرابع، تتعالى الصيحات والمطالبات والمواقف من أجل وقف التنسيق الأمني مع دولة الإحتلال لكونه خدمة مجانية للإحتلال، ونقيض المقاومة والكفاح.
وعندما يبلغ الغضب الشعبي والجماهيري والفصائلي أقصى مداياته، تقوم السلطة الفلسطينية بالبحث عن آليات لكيفية امتصاص الغضب الجماهيري، من أجل وقف حالة الإحتقان وتنفيسها وكذلك وقف تآكل هيبتها ورصيدها في الشارع الفلسطيني، حيث بلغ هذا الغضب ذروته بقول الرئيس الفلسطيني بأن التنسيق الأمني مقدّس، في وقت كانت "إسرائيل" تستبيح فيه الضفة الغربية، على خلفية خطف وقتل ثلاثة مستوطنين من قبل حركة حماس في حزيران 2014 وليتصاعد عدوانها بشن عدوان بربري على قطاع غزة في تموز 2014.
وعقب ذلك "إسرائيل" زادت وأمعنت "إسرائيل" في العنجهية والتطرف ورفضت تقديم أية تنازلات من شانها أن تحفظ للطرف الفلسطيني ماء وجهه وتسمح له بالعودة للمفاوضات، مستغلة حالة الضعف والشرذمة الفلسطينية، وانهيار الحالة العربية الداخلة والمستدخلة في حروب "الأخوة الأعداء" والتدمير الذاتي والمذهبية والطائفية، واشتباك الحالة الدولية وتعطل إرادتها، وعدم قدرتها على فرض حل سياسي على "إسرائيل"، وتهديدات السلطة الفلسطينية بعدم العودة للمفاوضات والتهديد بوقف التنسيق الأمني، كل ذلك تحوّل لظاهرة صوتية، لم تعد "إسرائيل" تخشاها أو تخاف تنفيذها لكثرة ما جرى التهديد بها، وفي كل مرة "يتمخض الجبل ليلد فأرا" والسلطة تعوّل أن تنال "دبساً من قفا النمس" وتعود لتجريب المجرب في دورة من المفاوضات الماراثونية العبثية غير المجدية، والتي لا نحصد فيها سوى صفراً ومزيداً من قضم وضم الأراضي الفلسطينية وتغيّر الواقع والوقائع والحقائق على الأرض، بسب فقدان الإرادة السياسية وغياب الرؤيا والإستراتيجية الموحدتين واستمرار الإنقسام والمناكفات وتغليب المصالح الفئوية والخاصة على المصالح العليا للشعب الفلسطيني، مع صراع تستخدم فيه عبارات التخوين والتكفير والتفريط والإرتباط والخضوع لأجندات واملاءات ومشاريع خارجية على سلطة لا تغني ولا تسمن من جوع ودسمها منزوع.
السلطة دعت إلى جلسة للمجلس المركزي في آذار 2015، حيث اتخذ قرار بوقف التنسيق الأمني بكافة أشكاله مع "إسرائيل"، ولكن هذا القرار لم يجر التقيد به، وكان يجري التهرب من تنفيذه، فهو كان للتهديد وليس للتطبيق، والجماهير والفصائل كانت تلحّ على تطبيقه، ولكن الرئيس في أكثر من خطاب كان يقول بأننا لم نلتزم باتفاقيات لا تلتزم بها "إسرائيل"، ولكنه لم يتطرق في أي من خطاباته لحل السلطة أو تعطيل أجزاء من اتفاق "أوسلو" بشكل مؤقت أو دائم كالتنسيق الأمني، وكان يترك الباب موارباً، فقرار المجلس المركزي رفع للجنة التنفيذية لكي تتخذ ما تراه مناسباً، واللجنة التنفيذية طالبت بإعادة مراجعة الإتفاقيات الأمنية والسياسية والاقتصادية مع دولة الإحتلال، وتشكلت لجنة لدراسة تطبيق ذلك، ولكن لم يجر وضع آليات لكيفية التنفيذ، وبدلاً من أن يشهد التنسيق الأمني تراجعاً، وجدنا أنه إن لم يحافظ على مستواه، فهو يتوسع ويزداد.
مع قيام الهبة الشعبية في 13 تشرين أول من عام 2015، تصاعدت الدعوات والمواقف والمطالبات شعبية وحزبية وفصائلية الداعية إلى وقف التنسيق الأمني، واحترام وتطبيق قرار المجلس المركزي والإرادة الشعبية، حيث الإحتلال يوسّع من عدوانه على شعبنا ويوغل في الدم الفلسطيني، وسياسات الإعدامات الميدانية بدت ظاهرة بشكل كبير وواضح، كذلك هي العقوبات الجماعية بهدم بيوت أهالي الشهداء وحتى الأسرى، وسحب الإقامات والطرد والترحيل القسري إلى خارج مدينة القدس، واستمرار احتجاز جثامين شهداء القدس لمدة زادت عن مئة وعشرة أيام للبعض منهم.
الجماهير الشعبية والفصائل والقوى التي كانت ترى بأن العدوان على شعبنا بطريقة همجية ووحشية، يتطلب وقف التنسيق الأمني، ولكن كانت الصدمة، عندما اكتشف هؤلاء بأن التنسيق الأمني، كما قال الرئيس عباس هو مقدّس، وبأنه لم يتوقف في يوم من الأيام وكنا نشكك في المصادر الإسرائيلية عندما كانت تتحدث عن إستمراره وتواصله وتصاعده، بأنها تهدف للتشكيك في السلطة والنيل من هيبتها ومواقفها، ولكن جاءت تصريحات مسؤول المخابرات الفلسطينية ماجد فرج، لكي تقول بشكل واضح عن أن التنسيق الأمني لم يتوقف لحظة واحدة، وهو الذي قال في مقابلة أجرتها معه مراسلة الشؤون الأمنية والعسكرية في مجلة "ديفنس نيوز"، بأن التنسيق الأمني مع "إسرائيل" لم يتوقف، مقدماً جردة حساب أمني، من خلال تأكيده على منجزات أجهزته التي تمكنت من إحباط 200 هجوم ضد "الإسرائيليين" واعتقلت 100 فلسطيني على الأقل، على خلفية مقاومتهم الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة، منذ اندلاع الانتفاضة الثالثة. وأضاف فرج "أن التنسيق الأمني مع إسرائيل يمثل الجسر الذي يمكن أن يُبقي على حضور الظروف الملائمة لكلا الطرفين، إلى أن تتهيأ الظروف المناسبة بين السياسيين نحو العودة إلى مفاوضات جادة".
الرئيس عباس في لقاءه مع وسائل الإعلام العربية والفلسطينية في رام الله، أكد على ما قاله فرج، وشكّل مظلة حماية له، عندما قال بأن ما تقوم به أجهزة الأمن الفلسطينية، يتم بأمر منه، وهو يريد منع الفلسطينيين في حروب لا قدرة لهم عليها، وأن الأجهزة الأمنية تقوم بحماية الفلسطينيين والبلد.
وفي هذا الإطار تحدثت العديد من المصادر عن لقاء عقد (الأربعاء) في الشطر الغربي من مدينة القدس لمدة ساعتين بين رئيس وزراء الإحتلال نتنياهو وبين رئيسي جهازي الأمن الوقائي والمخابرات في الضفة الغربية زياد هب الريح وماجد فرج، واللقاء تمحور حول إعادة الوضع إلى ما قبل هبة 13 تشرين 2015 مقابل تقديم تسهيلات حياتية واقتصادية للفلسطينيين، وخلق ظروف ملائمة بالعودة للمفاوضات من جديد.
هذه اللقاءات والتصريحات سواء للرئيس عباس أو لقادة الأجهزة الأمنية، ليست فقط تجاوزاً لقرارات الهيئات الرسمية من مجلس مركزي ولجنة تنفيذية وللإرادة السياسية والشعبية، بل تجعل أي حديث عن قرارات جديدة لمثل هذه الهيئات، مثار سخرية و"تنكيت" و"تندر" في الشارع الفلسطيني.
ولذلك فإن ما يجري الحديث عنه من لقاءات في الدوحة برعاية قطرية ومباركة مصرية وسعودية بين فتح وحماس من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية، تمثل فيها فتح وحماس مناصفة في الوزراء، ومناصفة بالعضوية في المجلس الوطني، وبمشاركة بقية الفصائل، على أن تسيطر حكومة الوحدة الوطنية على جميع الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية وقطاع، والإشراف على دمج وتوحيد المؤسسات والوزارات والإشراف على المعبر وفتح معبر رفح البري، والتحضير لإنتخابات عامة تجري خلال ثلاثة شهور ..الخ، على أن يقوم الرئيس عباس ورئيس المكتب السياسي لـ"حماس" خالد مشعل بالتوقيع عليها في الدوحة، لا أعتقد بأن هذا الإتفاق سيكتب له النجاح فإتفاقيات "المحاصصة" جرت أكثر من مرة وفي اكثر من عاصمة عربية، وآخرها اتفاق الشاطئ في غزة، وجميعها فشلت، حيث كل طرف له أجندته ورؤيته الخاصة، ولا وجود لإرادة سياسية أو توافق بين الطرفين، ولعلّ ما يجري من استمرار للتنسيق الأمني بين "إسرائيل" والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية سيصعب من أي ترجمة لمثل هذا الإتفاق على الأرض.