سيُعقد المؤتمر السنوي الثالث لمركز مسارات لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية يومي الجمعة والسبت القادمين تحت عنوان "إستراتيجيات المقاومة".
فمنذ أكثر من مائة عام، والشعب الفلسطيني يقاوم المشروع الاستعماري الاستيطاني الاحتلالي العنصري الصهيوني، إلا أنه لم ينتصر بالرغم من المعاناة الهائلة والبطولات العظيمة.
لم نشهد الكثير من المراجعات والدراسات والأبحاث التي عالجت تجارب الشعب الفلسطيني في المقاومة واستخلاص الدروس والعبر، واستيعاب ما لها وما عليها، حيث نجد انقسامًا واسعًا في الآراء بين من يعتبر أن المقاومة المسلحة دمرتنا وبين من يعتبرها البقرة المقدسة، وبين من يعتبر المفاوضات رجسًا من عمل الشيطان وبين من كتب أن المفاوضات حياة. وتم تأييد المقاومة الشعبية السلمية تارة، ومن دون وصفها بالسلمية تارة أخرى.
وتختلف الآراء كذلك بين من يؤيد الانتفاضة الشعبية على غرار انتفاضة 1987، ومن يؤيد الجمع ما بين العمل الشعبي والمسلح، وما بين من يرى ضرورة مراجعة تنظيم انتفاضات شاملة لعدة سنوات في ظل صراع تاريخي طال وسيطول، ويستوجب انتفاضات تستهدف تحقيق أهداف يمكن تحقيقها على طريق الانتصار الناجز، بحيث يستطيع أن يعيش الفلسطيني ويقاوم ويقدر على الاستمرار في العيش في ظل المقاومة المناسبة. فالمقاومة تزرع والمفاوضات تحصد.
نحن بحاجة إلى قراءة عميقة وعلمية للتجربة الفلسطينية تعطي الكفاح المسلح حقه بوصفه رافعة للنهوض الوطني، ومن دونه كان من الصعب بقاء القضية حية وتوحيد الشعب وبلورة هوية وطنية فلسطينية وكيان وطني واحد. كما أن الكفاح المسلح للاحتلال حق وواجب تقره جميع الشرائع الدينية والدنيوية، بما فيها القانون الدولي، ولكن الكفاح المسلح ليس صنمًا نعبده، بل هو إحدى إستراتيجيات العمل الوطنية التي يجب أن تخضع للمصلحة الوطنية، وليس للمصلحة الفردية والفئوية والفصائلية، أو لحسابات داخلية أو عربية وإقليمية ودولية، كما تلتزم بالقيادة الوطنية الموحدة الشرعية والمعترف بها.
قد يكون الكفاح المسلح شكلًا إستراتيجيًا للنضال، وقد يكون تكتيكيًا، وقد يصبح محصورًا في مجال حق الدفاع عن النفس، كل هذا يجب أن يخضع للبحث والتحليل وحسابات الربح والخسارة ورؤية المتغيرات والحقائق الجديدة، محليًا وعربيًا ودوليًا. فما كان صالحًا وإستراتيجيًا في مرحلة الحرب الباردة والاستقطاب الثنائي للعالم بين الاتحاد السوفيتي ومعسكره الاشتراكي والولايات المتحدة الأميركية ومعسكرها الرأسمالي، وفي ظل نهوض حركة التحرر الوطني العالمية، وما رافق ذلك من ظهور حركة "عدم الانحياز" والتضامن العربي؛ لم يعد صالحًا في مرحلة السيطرة القطبية الأحادية الأميركية على العالم التي وُجِدت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ومعسكره الاشتراكي وانهيار التضامن العربي، خصوصًا بعد احتلال العراق للكويت. وما يصلح الآن مختلف عما سبق، "فلكل زمان دولةٌ ورجالٌ".
نعيش الآن في مرحلة جديدة، مرحلة بروز تعددية قطبية عالمية وإقليمية. مرحلة التكتلات الاقتصادية الكبيرة، وثورة المعلومات والاتصالات والإنترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي. مرحلة ما يسمى بـ"الربيع العربي" الذي يشهد عمليات مدّ وجذر، لكنه أدخل العرب إلى مرحلة تاريخية جديدة سيأخذ المواطن العربي فيها رويدًا رويدًا دوره كاملًا، فانتهى العصر الذي يقرر فيه ملك أو رئيس أو زعيم مصير شعب بكامله أو أمة بكاملها.
المراجعة والتقييم ضروريان حتى لا نكرر نفس الأخطاء، وحتى نحقق التراكم والبناء على الإنجازات والمكاسب، بالاستناد إلى نقاط القوة وتحييد نقاط الضعف.
إن مركز "مسارات" واللجنة التحضيرية للمؤتمر بعد الشروع في التحضير له وجدا أنه من المستحيل الإجابة عن سؤال "إستراتيجيات المقاومة" من دون التوقف أمام إعادة تعريف المشروع الوطني، لأنه لم يعد واضحًا ولا واحدًا ولا جامعًا. ولا يمكن وضع إستراتيجيات للمقاومة من دون تحديد الأهداف الوطنية التي تهدف الإستراتيجيات لتحقيقها. فالإستراتيجية كما هو معروف هي الطريق التي نأمل أن يوصلنا من المكان الذي نقف فيه الآن إلى المكان التي نأمل الوصول إليه.
بعد توقيع "اتفاق أوسلو" لم يعد هناك مشروع وطني موحد، فهذا الاتفاق قسّم الفلسطينيين وفصل ما بين وحدة القضية والشعب والأرض؛ ما أدى إلى تجزئة القضية إلى قضايا، والشعب يكاد أن يصبح شعوبًا أو تجمعات بشرية منفصلة عن بعضها البعض. كما أن الأرض أصبحت أرض 67 وأرض 48، وأرض 67 هي الأخرى قسّمت إلى: أ، ب، ج، وداخل الجدار وخارجه، واقتُطعت منها القدس وضمت إلى إسرائيل، وقطاع غزة أصبح بعد "تحريره" منطقة معزولة لوحدها، محاصرة ومعرضة للعدوان الدائم والتوغلات والاغتيالات في ظل انقسام السلطة إلى سلطتين تحت الاحتلال تتنافسان على الفتات الذي اسمه "حكم ذاتي"، ويطغى رغم ذلك الصراع على السلطة والقيادة والقرار والتمثيل على كل شيء، بما في ذلك على الصراع مع المشروع الاستعماري الذي يهدد الجميع ولا يفرق بين "فتح" و"حماس" ومستقل، وبين معتدل ومتطرف، فالشعب الفلسطيني غير موجود عند المشروع الصهيوني حتى يعترف بحقوقه، وهذه الأرض الفلسطينية هي عند دعاته أرض الميعاد، أرض إسرائيل التي كانت محتلة وحررت، والعربي الجيد هو العربي الميت أو العبد أو الذي يترك أرضه ووطنه ويتيه في أصقاع العالم.
ما هو المشروع الوطني؟. إجابات متعددة ومختلفة عن هذا السؤال وصلت إلى اللجنة التحضيرية للمؤتمر ردًا على أسئلة وجهتها لعشرات الشخصيات السياسية والأكاديمية والعامة والناشطة، كما نجدها في البرامج المختلفة للفصائل والأحزاب، وفي الأبحاث والدراسات الأكاديمية، وعند أصحاب الآراء والأفكار على امتداد انتشار الشعب الفلسطيني داخل الوطن المحتل وخارجه.
هناك من يعتبر أن برنامج المنظمة المقر في العام 1988 (برنامج العودة وتقرير المصير والاستقلال الوطني)، الذي يشمل "وثيقة الاستقلال" هو المشروع الوطني، في حين يوافق البعض على وثيقة الاستقلال فقط، لكنه يرفض البرنامج السياسي الذي أطلق عليه "مبادرة السلام الفلسطينية". وهناك من يرى أن المشروع الوطني هو ما يتيحه لنا القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، بينما يعتبر آخرون أن ما تتيحه الشرعية الدولية هو الحد الأدنى والبرنامج المرحلي، وليس بديلًا عن الحل الجذري والإستراتيجي الذي يحقق الحقوق الطبيعية والتاريخية. في المقابل، هناك من يصر على تحرير فلسطين وعودة اللاجئين وإقامة دولة ديمقراطية أو إسلامية، ومن يوافق على دولة على معظم الأرض المحتلة على أساس حدود 1967 ضمن الموافقة على مبدأ "تبادل الأراضي"، وضم معظم الكتل الاستيطانية، وتدويل البلدة القديمة في القدس، وعودة رمزية للاجئين في إطار "لم الشمل" وليس تحقيقًا لحق العودة. ويصل الأمر عند البعض إلى الموافقة على دولة ذات حدود مؤقتة على افتراض أنه لا يترتب عليها أي تنازلات مبدئية، في حين ينادي البعض الآخر بدولة واحدة بكل أشكالها ثنائية القومية أو دولة لكل مواطنيها.