على مدار 65 عاماً ونيف تمكّنت دولة الاحتلال من إجراء عملية غسل دماغ مكثفّة للرأي العام العالميّ والمحليّ، بأنّها أقوى دولة في الشرق الأوسط والأكثر تطوراً، مع أعتى جيش في المنطقة. هذا الجيش القادر على إلحاق الهزيمة بالجيوش العربيّة مجتمعة
، وواحة الديمقراطية في صحراء الدكتاتوريات العربيّة. لكن خلال وإبّان وبعد العدوان على لبنان في صيف عام 2006 بدأت هذه الأسطورة تتهاوى وتتحطم، وحزب الله اللبنانيّ تمكن بقوته المتواضعة، مقارنة بجيش الدولة التي تتبوأ المكان الرابع عالمياً في تصدير الأسلحة، من تحطيم الدوكترينا، التي وضعها من يُطلق عليه الصهاينة لقب مؤسس الدولة العبرية، ديفيد بن غوريون، والقائلة إنّ حروب إسرائيل يجب أنْ تدور رحاها في أرض العدو، ومن ناحية أخرى، يجب أن تُحسم لمصلحتها خلال أيامٍ معدودة.
العدوان جعل بن غوريون يتقلّب في قبره: الجبهة الداخلية الصهيونيّة، تحوّلت إلى ساحة معركة، لأوّل مرّة في تاريخ إسرائيل يقوم ما يقارب المليون مواطن من الشمال بالنزوح أو بالهروب إلى مركز الدولة الآمن من صواريخ المقاومة، الحرب، خلافاً لنظرية مؤسس الدولة، استمرت 34 يوما، ولم تُحسم: الكيان الصهيونيّ لم ينتصر، حزب الله لم يُهزم.
***
كانت حرب لبنان الثانية علامة فارقة ومفصلية في تاريخ النزاع الدمويّ والدائم بين الحركة الصهيونيّة، ممثلة بصنيعتها الدولة العبريّة، والأمّة العربيّة، بدأت الأسطورة تتحطم، أسطورة الدولة التي لا تُقهر، حاول الكيان احتواء الأزمة، ابتكر المبررات وساق التسويغات وأنشأ لجان التحقيق، لكن بعد مرور أكثر من أربع سنوات على المغامرة غير المحسوبة، كما يقول عرب الاعتدال والتواطؤ والتخاذل، التي خاضتها المقاومة اللبنانية، بقيادة حزب الله، وتحديداً في الثاني من كانون الثاني (ديسمبر) من عام 2010، تبيّن أنّ عصر الهزائم قد ولّى قولاً وقلباً وقالباً، وظهر واضحاً وجليّاً أنّه لا حاجة بعد اليوم إلى الصواريخ والقذائف، ولا إلى الأسلحة التقليدية أوْ غير التقليدية. عود ثقاب، مصحوب ومدعوم بغضب الأرض على ساكنيها، وبإحجام السماء الزرقاء، كان كافياً لكشف حقيقة دولة الاحتلال: واندلع الحريق الأكبر والأشد قسوة في تاريخ إسرائيل فأتى على الأخضر واليابس، وكشف للعالم برمّته، من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، عن عورات هذه الدولة، ولن تشفع لهم لجان التحقيق، ولن يساعدهم مهرجان تبادل الاتهامات في ما بينهم، فالحقيقة ناصعة، ومئات آلاف الدونمات المحروقة في الكرمل غير الشامخ، أكبر شهادة، أصدق تأكيد، وتأكيد أصدق، على أنّ الكيان بجبهته الداخلية يُعاني عاهة مستديمة، غير جاهز للحرب، وفي المقابل فإنّ أركانه ليسوا على استعداد للسلام، ووقف سفك دماء الأبرياء بالأسلحة الفتّاكة والمحرمّة دولياً.
***
الجنرال موشيه بوغي يعالون، رئيس هيئة الأركان العامة الأسبق، ووزير الأمن حالياً قال في كتابه «سبيل طويل قصير» إنّ عرفات مثّل تهديداً إستراتيجياً للدولة العبرية، لافتاً إلى أنّ الزعيم الفلسطينيّ الراحل كان يؤمن بوجوب القضاء على إسرائيل بواسطة عاملين: الأول العامل الديموغرافيّ، والثاني العامل الإرهابيّ، أيْ المقاومة، وبناءً عليه فهو لم يتنازل ولو مرّة واحدة، بحسب يعلون، عن الإرهاب ضدّ الدولة العبريّة، كما يؤكد يعلون أنّ عرفات استخدم اتفاق أوسلو محطة في طريقه لإبادة الكيان، موضحاً أنه تبنّى نظرية خيوط العنكبوت قبل حسن نصر الله وأحمدي نجاد وبشار الأسد. وبحسبه فإنّ نظرية خيوط العنكبوت تقول إنّ إسرائيل دولة عظمى من الناحية العسكريّة، لكنّ المجتمع اليهودي في الكيان مجتمع لا ينقصه أيّ شيء، وبناءً عليه فإنّه لا يريد خوض الحروب، وبالتالي فإنّه بموجب هذه النظرية، يقول يعلون، آمن عرفات وبعده نصر الله ومن ثم نجّاد أنّ الدولة العبريّة مثل خيوط العنكبوت، فمن الخارج تراها قوية، لكن عندما تدخلها تكتشف أنّها ضعيفة جداً وتتفكك. وباعتقادنا جاء حريق الكرمل ليؤكد على نحو غير قابل للتأويل أنّه لا حاجة لعمليات عسكرية ضدّ الكيان لتحويل النظرية العنكبوتية إلى واقع، ولا غضاضة في هذه السياق في تذكير يعلون ومن لف لفه بقول الله تعالى في كتابه الكريم: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (سورة العنكبوت).
***
جميع المحللين الصهاينة، على مختلف انتماءاتهم صبوا جام غضبهم على تقصير وإهمال حكومات الكيان المتعاقبة في كل ما يتعلّق بسلطة المطافئ والإنقاذ، سيارات ملائمة للمتاحف تُستعمل للإطفاء، وأدوات أكل الدهر عليها وشرب تستخدم لإخماد الحرائق، ورئيس الوزراء يتوجه شخصياً إلى زعماء الدول مستنجداً ومناشداً وطالباً المساعدة، وعن هذا قيل سبحان مغيّر الأحوال، الكيان بجلالته وعظمته يلجأ إلى قبرص وتركيا وبريطانيا وفرنسا للحصول على مساعدات في احتواء (الكارثة الوطنيّة)، تستأجر أكبر طائرة في العالم من حليفتها، أميركا، للسيطرة على حريق اندلع في الجبل، ودفعت نصف مليون دولار رسوم استئجار وتأجير. أين سلاح الجو الإسرائيليّ، الذي يتباهى به كل صهيوني ولدته أمّه، شبع حليب العنصرية وتشبّع بكراهية جميع الناطقين بالضاد؟ كتبوا عن الإهمال، أسهبوا في شرح التقصير، ووصلت الوقاحة والعنجهية بأحدهم، أمير أورن، المحلل العسكري في صحيفة «هآرتس» العبريّة، إلى انتقاد حكومته في مقال نشره لأنّها سمحت للطائرة الروسيّة، التي أسهمت إلى حد كبير في إخماد الحريق، بتصوير المواقع الاستراتيجيّة الإسرائيليّة، لكنّهم جميعاً وبدون استثناء لم يضعوا الإصبع على الجرح النازف: ماذا سيحدث لنا ولهم، لنا في الداخل، ولنا العرب في الوطن العربيّ، لو اندلعت، كما يُهددون، حرب شاملة، يجري خلالها، بحسب السيناريوهات التي تُعدّها مراكز أبحاثهم، استعمال الأسلحة غير التقليدية: أي بصريح العبارة الكيميائيّة والبيولوجيّة وحتى النوويّة، التي كشف أنّ إسرائيل تملكها في تصريح غير مسبوق رئيس الكنيست الأسبق، أبراهام بورغ، في مؤتمر عُقد بحيفا، في الرابع من كانون الأوّل (ديسمبر) الجاري.
***
والشيء بالشيء يذكر: مُراقب الدولة العبريّة، إسحاق شابيرا، قال في تقريره الأخير إنّ الجبهة الداخليّة الإسرائيليّة غير جاهزة للحرب، فأكثر من أربعين بالمئة من مواطني هذه الدولة المارقة لا يملكون الكمّامات الواقية، والملاجئ غير حاضرة، والمستشفيات غير محصنّة. أمّا قائد الجبهة الداخليّة في إسرائيل الجنرال إيال أيزنبرغ، فقد صرّح في العاشر من الشهر الجاري قائلاً إنّ الحرب المقبلة يُمكن أن تبدأ بمفاجأة، لذلك يجب علينا الاستعداد أكثر لأيّ مواجهة قادمة، فربّما تبدأ المعركة بسقوط المئات من الصواريخ في قلب إسرائيل، وسقوط تلك الصواريخ سيستمر حتى انتهاء الحرب («يديعوت أحرونوت»)، لكنّ الرياح تجري بما لا تشتهي السفن: العاصفة الثلجيّة التي ضربت المنطقة في الأيام الأخيرة، جاءت لتكشف مرّة أخرى، بالصوت وبالصورة، عن عورات دولة الاحتلال ووهنها: عشرات ألآلاف من البيوت بقيت بدون كهرباء في القدس، عاصمة عروبتكم، الشارع الرئيسيّ والمسّمى الشارع الرقم واحداً، أُقفل أمام حركة السير بسبب الثلوج، ألاف السيارات على راكبيها حوصرت، ولم تتمكّن قوى الإنقاذ من تقديم المساعدة، الشمال كان معزولاً والحياة وصلت إلى حالة من الشلل، المركز عانى الآمرين من إغلاق الشوارع الرئيسيّة، وكالعادة بدأ مسلسل الاتهامات بين السلطات ذات الصلة، تقصير وإهمال، وما إلى ذلك، لكنّ الحقيقة الناصعة كبياض الثلج تقول ما لا يُريدون قوله: العاصفة الثلجيّة أثبتت المثبت وطبّعت المُطبّع: إسرائيل فعلاً، أوهن من بيت العنكبوت، على الرغم من قوتّها المزعومة، لذلك لأنّ الثلج تغلّب عليها بالضربة القاضية، فما بالكم، إذا تعرّضت لقصف صاروخيّ مستمر بحسب السيناريو الذي تحدثّ عنه قائد الجبهة الداخليّة؟ وماذا سيحدث لو تحققّ السيناريو الذي تحدث عنه الجنرال في الاحتياط، عاموس يدلين، والذي قال قبل أسبوعين إنّه في حال اندلاع مواجهة مع حزب الله، فإنّ سوريا وإيران لن تقفا مكتوفتي الأيدي؟ وهذا الزمان وهنا المكان لاقتباس مراكز أبحاثهم وتصريحات أقطاب دولتهم بأنّ ترسانة حزب الله اللبناني العسكريّة تطورّت كماً ونوعاً مرّات عدّة منذ حرب لبنان الثانية، وبالتالي نسأل: حريق الكرمل وعاصفة الثلج، أكدا لكل عاقل أنّ هذه الدولة المُعربدة بامتياز أضعف بكثير ممّا تُحاول الماكينة الإعلاميّة العبريّة والغربيّة تصويرها، فإذا لم تتمكّن من السيطرة على كوارث طبيعيّة، فماذا سيحدث، لا سمح الله، لو اندلعت الحرب وجرى استعمال الأسلحة غير التقليديّة؟
***
الحقّ، الحقّ أقول لكم، قال السيّد المسيح عليه السلام، ونحن نُردد وبصوت عالٍ، بدون صعوبة في التنفس من جراء تلويث الجو من كارثة الكرمل، لكن مع برد قارص بسبب الأحوال الجويّة العاصفة: لم نفرح بحزنهم، لم نحزن بفرحهم، لم ولن نفرح بفرحهم، وبطبيعة الحال لا نحزن بحزنهم. وعلى النقيض، نميل إلى الترجيح بأنّ مقولة الرفيق لينين تنطبق على وضع الدولة العبريّة: عندما تتكرر الكذبة بما فيه الكفاية تتحوّل إلى حقيقة.