لم ألتقه يوماً، ولم أجالسه ولو لمرة واحدة. كما ولم يسبق لنا أن تبادلنا الحديث حتى ولو عبر الهاتف. لكنني أعرفه جيداً، وصدح اسمه في أذناي مراراً وتكراراً، وصورته المعلقة هنا وهناك لا تكاد تغيب عن عيناي،
وحديث الأسرى عنه ومن قبلهم ضباط وجنود السلطة الفلسطينية يدفعني دوماً نحو البحث عن وسيلة للتواصل معه. إنه الجنرال العجوز فؤاد حجازي الشوبكي "أبو حازم"، أحد قادة حركة "فتح" ومؤسسي الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية.
فؤاد الشوبكي وكنيته "أبو حازم".. جنرال فلسطيني ومسؤول الإدارة المالية العسكرية سابقاً وواحد ممن وقفوا طويلاً على رأس هرم السلطة، وأسير حالي يقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ عشر سنوات بعدما اقتحمت قوات الاحتلال المدججة بالسلاح سجن أريحا الفلسطيني بقوة البندقية وعنجهية الاحتلال واختطفته في الرابع عشر من آذار/مارس عام 2006 مع مجموعة من رفاق الجبهة الشعبية ونقلتهم جميعاً إلى سجونها سيئة الصيت والسمعة، ومن ثم حكمت عليه إحدى المحاكم العسكرية بالسجن الفعلي لمدة (20) سنة بتهمة تهريب باخرة "كارين ايه" المحملة بالسلاح والعتاد للمقاومة الفلسطينية، واليوم الثلاثاء قررت محكمة الاستئناف في سجن عوفر تخفيض 3 سنوات من مدة الحكم.
"أبا حازم" شاب شعر رأسه واكتساه اللون الأبيض، وهرم قبل أن يرى اللحظة التاريخية التي لطالما حلم بأن يشهدها، وهموم الدهر أثقلت حركته داخل زنزانته، وتقدمه في السنّ لما بعد العقد الثامن من العمر، جعل من الأمراض المتعددة تستوطن جسده، فتزيد من معاناته معاناة ومن ألمه ألماً. وسنوات السجن الطويلة أورثته أمراض خطيرة ومزمنة في ظل استمرار الاهمال الطبي وعدم توفير الرعاية الطبية له.
"أبا حازم".. شيخ الأسرى كما يحلو لرفاق الأسر أن يطلقوا عليه، فهو أكبرهم سناً، إذ بلغ مرحلة متقدمة من العمر وتجاوز السبعين عاماً بخمس سنوات، وما يزال يحلم بالحرية إن كان في العمر بقية.
والأخطر أن "الجنرال العجوز" تعرّض منذ لحظة اعتقاله إلى انتهاكات جسيمة ومعاملة لا إنسانية، وأخضع لتحقيق قاس، ولصنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي، وأودع في زنازين ضيقة ومعتمة لشهور طويلة، وتنقل معصوب العينين ومكبل اليدين ما بين سجون عدة أبرزها المسكوبية وعسقلان وهداريم إلى أن استقر به الحال مؤخراً في معتقل النقب الصحراوي.
ويعيش "الشوبكي" في السجون والمعتقلات الإسرائيلية حياة آلاف الفلسطينيين ويحتجز في ظروف قاسية دون مراعاة كبر سنّه وحالته الصحية المتدهورة، ودون توفير الحد الأدنى من احتياجاته الطبية، والأدوية الضرورية مما فاقم من معاناته وأدى لاستفحال الأمراض في جسده المنهك والمثقل بالهموم والأوجاع.
ومع مرور الوقت يتسع الجرح ويتفاقم الوجع، فحالته الصحية تزداد سوءًا، وحالته النفسية تتأثر بوفاة زوجته ورحيل رفيقة عمره "أم حازم" في العاشر من كانون الثاني/يناير عام 2011. تلك المرأة الفاضلة والمناضلة التي تحدثت معي أكثر من مرة قبل وفاتها لتشكي لي همومها وهموم زوجها.
"فؤاد الشوبكي" أو "الجنرال العجوز" أو "شيخ الأسرى" كما يُطلق عليه الأسرى، رجل تعرفه فلسطين، وقائد تشهد له الساحات المختلفة وعلم من أعلام الثورة الفلسطينية، واسم لمع في سماء فلسطين فحفظته الأجيال المتعاقبة، وجنرال عجوز يستصرخ ضمائر الضباط والجنود، وأسير كهل أنهكته السنون واثقلته الأمراض وأبكته المأساة. وهو بحاجة إلى جهدنا جميعاً، ومساندتنا القوية، ونصرتنا الجادة، لوضع حد لمعاناته، وضمان انتزاع حريته من أنياب السجان ليعود إلى أهله وأحبته وشعبه قبل أن يخطفه الموت.
عبد الناصر عوني فروانة
* باحث مختص بقضايا الأسرى ومدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى والمحررين.