تـصادف اليوم الذكرى الـ43 لعملية ميونخ وهي إحدى أهم العمليات الفدائية في تاريخ القضية الفلسطينية.
احتجز الفدائيون رهائن "إسرائيليين" في ميونيخ، وحدث ذلك أثناء دورة الألعاب الأولمبية الصيفية المقامة في مدينة ميونخ في ألمانيا من 5_6 أيلول/ سبتمبر من العام 1972، ونفذتها منظمة "أيلول الأسود"، وهي منظمة فلسطينية تأسست إثر أحداث أيلول عام 1971 في الأردن.
وبحسب الرواية الفلسطينية، جاء التخطيط للعملية ردا على عمليات الاغتيال وقصف الاحتلال "الإسرائيلي" المتزايد لقواعد الفدائيين في لبنان وللفت انتباه العالم للقضية الفلسطينية، وكان المطلب الأساسي الإفراج عن 236 أسيرا قابعين في المعتقلات.
العقل المدبر
كان محمد داوود عودة (أبو داوود)، وصلاح خلف (أبو إياد)، فكروا بعملية قوية ردا على عمليات الاغتيال وعلى القصف "الإسرائيلي" المتزايد لقواعد الفدائيين في لبنان وللفت انتباه العالم للقضية الفلسطينية وجعلها تشغل الرأي العام العالمي.
في البداية، كان هناك تفكير للعمل ضد الموساد وأذرعه، ولكن جاءت عملية قتل غسان كنفاني في 8/7/1972م، لتحمل رسالة فهمها المسؤولون الفلسطينيون بأن الإسرائيليين يقتلون من يستطيعون الوصول إليه من القيادات الفلسطينية بغض النظر عن مهامه : عسكرية أم سياسية كما كانت مهمات غسان، لتجعلهم يفكّرون بعمل كبير يقول للإسرائيليين أن الفلسطينيين يستطيعون الوصول إليهم في الخارج.
وبرزت الفكرة عندما رفضت اللجنة الأولمبية إشراك فريق فلسطيني في الأولمبياد العشرين في ميونخ، فاقترح فخري العمري “أبو محمد” مساعد أبو اياد بالدخول الى قرية الأولمبياد واحتجاز الرياضيين "الإسرائيليين".
التنسيق والاجتماعات
التقى أبو داوود مع أبي إياد وفخري العمري في العاصمة البلغارية صوفيا، وناقشوا أمورا تتعلق بالعملية والمنفذين وإدخال السلاح الى ألمانيا، تم الاتفاق أن يكون يوسف نزال الملقب بـ”تشي” القائد الميداني للعملية.
بعد ذلك تم بلورة خطوط تفصيلية للعملية، بحيث يدخل الفدائيون وهم يلبسون الملابس الرياضية عن طريق السياج، كأنهم فرقة رياضية عائدة بعد سهرة، ويقتحمون مقر البعثة “الإسرائيلية” والرياضيون نيام، وتم الاتفاق مبدئيا على أنه إذا كان عدد الرياضيين الإسرائيليين مع طاقم التدريب والإدارة يصل إلى ثلاثين، فإن عشرة رجال يكفون لتنفيذ المهمة التي لن تطول إلا ساعات قليلة، و كل ذلك تم بين أبو داوود وفخري العمري ويوسف نزال (تشي) الذين التقوا في ميونخ وبدأوا بدراسة الوضع ميدانيا على الأرض. وبعد ذلك حدث لقاء بين أبو داوود وأبو إياد في بيروت، تم فيها وضع أبو إياد في صورة ما حدث، وتم تجهيز جوازات سفر أردنية مزورة لدخول الفدائيين بها إلى ألمانيا.
التجهيز والتخطيط
بدأ أبو داوود عمله في رصد وجمع المعلومات عما يجري في القرية الأولمبية وما يتعلق بالبعثة "الإسرائيلية"، وتحديد المبنى الذي ستنزل فيه البعثة. ولحقه أبو أياد، وكان أبو إياد قد أدخل معه الأسلحة في حقيبتين مع امرأة اسمها جوليت، ورجل فلسطيني اسمه علي أبو لبن، مرت الأمور بسلام في المطار وبدون إثارة أية شبهة كانت الأسلحة عبارة عن 6 كلاشينكوف ورشاشين.
تم تعيين يوسف نزال مسؤولا عسكرياً عن المجموعة، أما محمد مصالحة فتم تعيينه مسؤولا سياسيا عنها، يوم 4 سبتمبر وصل الستة الآخرون ونزلوا في فنادق متفرقة، كان اتصالهم مع نزال ومصالحة فقط، ولم يكونوا يعرفون عن أبي داوود شيئا، كما اعتقد أبو داوود، الذي أكمل الاستعدادات فاشترى ملابس رياضية وجهز آلات حادة وحبالا ومؤونة طعام تكفي لثلاثة أيام وغير ذلك من مستلزمات العملية.
تم توزيع الأسلحة التي جلبت من المحطة على الحقائب وكذلك المؤونة وغير ذلك، والتقى أبو داوود مع الجميع، وقدّمه نزال ومصالحة على أنه رجل تشيلي يدعم القضية الفلسطينية، وتم وضعهم في صورة المهمة المنتظرة ومناقشة مزيد من التفاصيل، واستمر اللقاء يوم 5 سبتمبر حتى الثانية والنصف فجرا، بعدها، توجه الجميع إلى القرية الأولمبية.
الدخول للقرية الأولمبية
لدى وصول فريق الكوماندوز إلى القرية الأولمبية، كانت أبواب القرية مغلقة. وصل أفراد من البعثة الرياضية الأميركية وهم ثملون، وبدؤوا بمحاولة تسلـق السياج، واختلط الفدائيون بالأمريكيين وساعدوا بعضهم بعضاً على تسلق السياج، بينما الجميع يضحك ويغني.
يقول أبو داوود رحمه الله، واصفاً ذلك المشهد: "كان المنظر خيالياً أن ترى هؤلاء الأمريكيين، الذين لا يشكّون بالطبع أنهم يساعدون مجموعة من فدائيي أيلول الأسود الفلسطينيين في الدخول إلى القرية الأولمبية، يمدّون أياديهم هكذا يأخذون حقائبنا المليئة بالأسلحة ويضعونها على الجهة الأخرى من السياج".
ويذكر أبو داوود أيضا مفاجأة أخرى، فبعد أن تسلق الرجال السياج لم يبقَ من المجموعة غير فدائي واحد، كان كبير الحجم مثل أبو داوود، وكان الاثنان يساعدان الآخرين كنقطتي ارتكاز لرفعهم، والآن جاء دور هذا الفدائي لكي يستخدم أبو داوود كنقطة ارتكاز لتسلقه السياج، وبعد أن نجح في ذلك وأصبح فوق السياج شكر أبو داوود ذاكرا اسمه، ومعنى ذلك أنه كان يعرف طوال الوقت هوية أبو داوود، الذي قدّم للفدائيين بأنه رجل تشيلي مؤمن بالقضية الفلسطينية.
اقتحام مبنى فريق الاحتلال
في الساعة 8 صباحا أُعلن عن نجاح 5 فدائيين بالتسلل إلى جناح البعثة "الإسرائيلية" وقتل واحد واحتجاز 13 آخرين.
أحاطت الشرطة الألمانية بالمبنى، وتمركز القناصة على أسطح المباني المجاورة وبدأت المفاوضات مع الفدائيين بحضور وزير الداخلية الألماني الذي عرض عليهم في البداية مبادلة الرياضيين "الإسرائيليين" بعدد من المسؤولين الألمان ولكن رفض منفذو العملية هذا الطلب، وعرضت السلطات الألمانية مبلغا غير محدد من الأموال ولكن رفض هذا العرض أيضا.
أثناء العملية طالب الفلسطينيون بتوفير طائرة تقلهم مع الرهائن إلى القاهرة فأقلعت طائرتا هيلكوبتر محملتان بالفلسطينيين والرهائن إلى مطار "فورشينفليد بروك"، وأرسلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أحد كبار مسؤولي جهاز "الشاباك" لإعداد كمين لإطلاق سراح الرهائن حتى لو أدى ذلك إلى مقتلهم كما صرحت بذلك رئيسة حكومة الاحتلال غولدا مائير حينها.
احتل 12 قناصا ألمانيا عددا من المواقع في المطار الذي كانت ساحته مضاءة بالأنوار الكاشفة، وأطلقوا النار على الفدائيين الفلسطينيين فرد الفدائيين بأطلاق النار على القناصين، كما أطلقوا النار على الأنوار الكاشفة فساد الظلام مسرح العملية وتواصلت الاشتباكات بين الفدائيين الفلسطينيين والقناصين الالمان لمدة 3 ساعات.
وانتهت عملية الإنقاذ الفاشلة بقيام القناصة الألمان في النهاية بقتل 11 رياضيا إسرائيليا واستشهد 5 فدائيون فلسطينيون من أصل 8 شاركوا في العملية بالإضافة إلى ضابط شرطة ألماني وطيار مروحية ألماني وتم تفجير مروحية.
النهاية
أطلقت ألمانيا سراح الفلسطينيين الـ3 الناجين في العملية، وفي رد على العملية خططت قوات الاحتلال ونفذت عمليات اغتيال لعدد من الأفراد الذي قيل أنهم كانوا مسؤولين عن العملية، وبالرغم من الاعتقاد السائد بأن 2 من منفذي العملية الناجين الثلاث قتلوا كجزء من العملية الانتقامية، فإن بعض الدلائل الحديثة تشير إلى عكس ذلك.
أصداء العملية
كتب سيمون رييف أن عملية ميونخ التاريخية كانت واحدة من أهم عمليات الصراع في العصر الحديث، وأنها "دفعت بالقضية الفلسطينة تحت الأضواء العالمية، لافتة الانتباه لعقود من الصراع في فلسطين، ومطلقة عهدا جديدا من المقاومة الدولية".
وفي النصف الأول من السبعينات خاطب الشهيد أبو حسن سلامة مسؤول المخابرات الفلسطينية، رفيقه أبو داوود قائلاً: "عملية ميونيخ تاريخية، ففي كل مرة يدور الحديث عن الألعاب الأولمبية ستذكر هذه العملية، لقد دخلت التاريخ".
ويبقى التاريخ يتذكر ويكتب عن عملية ميونخ التي جسدت معنى الشجاعة والجرأة لدى المقاوم الفلسطيني وتضحيته بنفسه من أجل قضيته وفلسطينه.
إعداد: أشرف سهلي