أسباب كثيرة تقف خلف فشل الأمم في الوحدة والنهوض والتماسك والاندفاع نحو الإنجازات منها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والأمنية، لكن السبب الأخلاقي يقف على رأسها.
ما من أمة حققت إنجازات عظيمة وحصّنت نفسها أمنياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً إلا كانت صاحبة منظومة أخلاقية متماسكة وواضحة تدفع بها نحو الرقي والعطاء، وما من أمة انهارت أخلاقها تمكنت من تحقيق تطلعات وإنجازات مهما كان بحوزتها من ثروات وطاقات تمكنها من الوقوف على أقدامها.
الأمة الأخلاقية هي التي تندفع إلى الأمام حتى لو كانت ثرواتها المادية ضئيلة جداً، والأمة المتدهورة أخلاقياً لا يمكن أن تنهض حتى لو امتلكت كل المقومات المادية الضرورية للتقدم. يكمن التفسير في أن الأمة الأخلاقية واعية، وتتطلع نحو المستقبل برؤية واضحة وقادرة على ترتيب أولوياتها وترتيب علاقاتها الداخلية بحيث تعلو قيم العمل الجماعي والتفكير العلمي والتعاون المتبادل على كل القيم الأخرى؛ أما الأمة غير الأخلاقية فلا تملك رؤية ولا تطلعاً نحو المستقبل، وهي فاقدة للتفكير العلمي، وتتمسك بقيم الافتراق التي تأبى العمل الجماعي والتعاون المتبادل والعلاقات الداخلية القائمة على الثقة المتبادلة. أمة الأخلاق أمة وضوح وعمل جاد وإنتاج ومساهمة في الحضارة العالمية، أما الأمة المنحطة أخلاقياً فأمة كسل وعجز واعتماد على الآخرين وتبذير للثروات والإمكانات. أمة الأخلاق مؤتمنة على نفسها وعلى شعبها وعلى المحبة والوئام، أما أمة الانحطاط فدائماً موضع شك ولا ثقة بها، وهي أمة انشقاق وتنافر ونفاق واقتتال واستبداد.
الانقسامات الداخلية
أمة الأخلاق أمة موحدة لأن أبناءها يدركون جيداً فوائد الوحدة، وهم في الغالب لا يقتتلون ويعملون دائماً على حلّ مشاكلهم بصراحة الكلام ويطرحون حلولاً عملية لما يعترض طريقهم دون تشنج أو عصبية أو نظرات عنصرية. أمة الأخلاق أمة واعية وتتمسك بالتفكير العلمي، ولهذا لا تحسم مشاكلها الداخلية بالاقتتال والتنابز والشجار، وأبناؤها يعملون معاً لكي يصلوا إلى أفضل النتائج التي تعود بالنفع على الجميع. ثم إن المنظومة القيمية ذاتها تعمل عامل توحيد وتصويب البوصلة نحو الإنتاج والإنجاز لأنها دائماً في وعي الإنسان الفرد، وهي جزء لا يتجزأ من التركيب التربوي للفرد، وجزء من الوضع النفسي للناس.
أما الأمة التي لا تتمتع بمنظومة قيمية أخلاقية فلا تستطيع تحقيق الوحدة حتى لو ظهرت بأنها موحدة والسبب يعود إلى طيش الفرد الناجم عن غياب محددات أخلاقية للسلوك. عندما تغيب المنظومة القيمية تبرز المزاجية الشخصية، ويفتح الفرد لنفسه حرية التصرف وفق مزاجه الخاص دون الأخذ بالاعتبار الميزان العام. غياب المنظومة القيمية يعني سيطرة الأهواء الخاصة على العلاقات العامة سواء بين الناس أنفسهم، أو بينهم وبين المؤسسات التي من المفروض أن تخدمهم. وإذا سادت الأهواء برزت العنصرية في التعامل وأحيت الطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية والعائلية والجهوية، وتصاعدت الكراهية والبغضاء والعداوات بين الناس، وتمزقت الجهود وتشتتت وضعف الشعب كما الدولة. وهذا بعينه خير توصيف للانقسامات وتمزيق الأوطان إلى إقطاعيات متشاجرة متقاتلة، وأفضل ما يجعل الحياة صعبة وقاسية. وحيث أن الشعب ضعيف والدولة كذلك فإنه يصبح من اليسير على القوى الخارجية أن تنفذ أطماعها.
محنة العرب
تبعاً للتوصيف أعلاه، واضح أن العرب يعانون من محنة أخلاقية، ويعانون من غياب المنظومة الأخلاقية التي من المفروض أن تجمعهم وتوحدهم وتدفعهم نحو التقدم. والأمر هذا لا يحتاج إلى تمحيص متعمق لأن المأساة تتجسد كل يوم أمام العربي. فمثلاً لم يخط العرب خطوات مهمة نحو الوحدة والتجمع إلا مرة واحدة عام 1958 عندما قامت الجمهورية العربية المتحدة والتي كانت تجربة فاشلة لم يكررها العرب كمحاولة أخرى للنجاح. ومنذ أن وعيت أنا على هذه الدنيا وأنا أسمع الإذاعات العربية منشغلة بالسباب والشتائم على المنافسين أو الخصوم الداخليين. والآن لا تتوقف شاشات التلفزة عن بث الكراهية والبغضاء بين الحكام والشعوب على حد سواء، ولا تترك فرصة مهما كانت ضئيلة للهجوم على الخصوم إلا استغلتها. العرب لم يتوحدوا وحققوا فشلاً متواصلاً في مختلف ميادين الحياة الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية والعسكرية، الخ. وبسبب ضعفهم الأخلاقي تطاولت عليهم الأمم وسيطرت على مقدراتهم وثرواتهم، وتحكمت بمصائر بلدانهم. ولأن المزاجية والأهواء هي التي تتحكم بسلوك الحكام والدول تحولت المشاجرات والمنابزات بين البلدان العربية إلى سيرة حياة، وولدت الكثير من الشقاء والتعاسة والكراهية بين الشعوب.
يبدو أن العربي استدخل الانحطاط الأخلاقي إلى درجة أنه بات يفسّر أعماله غير السوية على أنه عربي. فإذا سألت عربياً عن عدم استعداده لاحترام دور الآخرين حيثما يتطلب الموقف احترام الأدوار يقول "إننا عرب". أي أن العرب فوضويون ولا يحترمون الأدوار، وهم لا يحترمون حرمة المكان أو الهدوء الذي يجب أن يسود في المكان، وحتى أنهم لا يحترمون من أحسن إليهم، ولا يحترمون قيم الأمانة والالتزام. العربي لا يتقن الأعمال الإدارية وسرعان ما يجنح إلى استخدام موقعه الإداري لتحقيق مصالح شخصية، وهو سرعان ما يخون الأمانة ويختلق لنفسه الكثير من المبررات والحجج التي دفعته إلى القيام بالعمل المشين. طبعاً ليس كل عربي هكذا، لكن خيانة الأمانة تشكل ظاهرة واسعة في الساحة العربية.
من الملاحظ أن البعد الأخلاقي لا يحتل حيزاً محترماً في خطابات وكلمات الحكام العرب، وهذا أمر منطقي لأن الحاكم العربي مستبد ومجرم، ومختلف أعماله تؤكد أنه لا يوجد لديه رؤية أخلاقية. وكذلك تغيب قضية الأخلاق إلى حد بعيد عن وسائل الإعلام، ونادراً ما تطرحها للنقاش والجدل والتوضيح. حتى المدارس لا تكترث كما يجب في تأسيس منظومة أخلاقية، وبما أن الدول العربية كثيرة فإن المدارس تخدم في النهاية حكاماً كثراً غير معنيين بإقامة منظومة أخلاقية عربية تضع العرب على قائمة الأمم المتميزة أخلاقياً. والجامعاغت لا تختلف عن المدارس إلى درجة أن العديد من الأكاديميين يمارسون النفاق للحاكم من أجل جلب مصالح خاصة. وكيف لطلاب أن ينهضوا بأفكار حول المنظومة الأخلاقية إذا كان من يدرسهم يمارس النفاق والكذب؟ وهذا ينطبق على خطيب يوم الجمعة المتهم بالرياء للحاكم، والذي لديه الاستعداد أن يصدر العديد من الفتاوى الدينية خدمة لسياسات الحاكم الظالمة.
ضعف الالتزام الأخلاقي
قد يعطي الآباء أحياناً دروساً في الأخلاق لأبنائهم، ومن المحتمل أن يحمل بعض مدرسي المدارس والجامعات رسالة أخلاقية للطلاب والطالبات، وربما تفعل هكذا بعض وسائل الإعلام. لكن الجهود الفرية تضيع في زحمة أمرين وهما: ضعف المستوى الأخلاقي لدى المجتمع والذي يحاول دائماً ترويض المؤسسات التعليمية والإعلامية وفق معاييره؛ والثاني ضعف الالتزام العملي بالمبادئ التي تُطرح أمام المستمعين. وهنا بعض الأمثلة على الخلل الخطير في الالتزام: الطبيب ينصح مريضه بعدم التدخين وهو يحمل لفافة التبغ بيده؛ الأب ينهى ابنه عن الكذب دون أن يحرم على نفسه الكذب أمام ابنه؛ نرفع شعار النظافة من الإيمان وشوارعنا مليئة بالقمامة؛ ندعو إلى اخضرار الأرض في الوقت الذي نعتدي فيه على الغابات والأشجار المثمرة والحرجية. نريد تحرير الأوطان ونحن نائمين في بيوتنا أو معتمدين على القوى الخارجية للقيام بما يجب علينا أن نقوم به. نقول إن الجنة تحت أقدام الأمهات ونحن ما زلنا نتعامل مع المرأة كمخلوق من الدرجة المتدنية. توصي الأم ابنها بأن يتفحص الشارع جيدا قبل أن يقطعه لكنها لا تحترم الإشارة الحمراء أمامها؛ وابنها معها وكثيراً ما ندعو إلى الأخلاق ونمارس الرذيلة.الأبناء يتعلمون من الآباء أو المربين، وإذا تولدت لديهم قناعة بفساد المربين فلا من سبب يدعونا للظن بأن الأبناء سيكونون أكثر التزاماً من الآباء. الابن ابن أبيه الذي يؤسسه تربوياً.
أخلاقنا الإسلامية
عديد منا ينظرون إلى أهل الغرب وتميزهم الأخلاقي وإنجازاتهم العلمية والتقنية فيقولون إن أهل الغرب قد درسوا الإسلام وطبقوا أخلاقياته، أما نحن المسلمون فلم نتعلم الدرس حتى الآن. يقول الناس هذا للتأكيد على أخلاقية التعاليم الإسلامية. ربما هناك من درس الإسلام من أهل الغرب بخاصة الذين استشرقوا، أو الذين يتخصّصون في دراسة الدين الإسلامي لفهم تفكير المسلمين وتطوير السياسات الخارجية لدولهم، لكن يجب ألا نظن أن أهل الغرب مثقفون إسلامياً، أو أنهم عكفوا على نطاق واسع على دراسة الإسلام. توصّل أهل الغرب إلى منظومتهم القيمية من خلال تجاربهم التاريخية، وهي تجارب لم تكن سهلة أو هادئة أو سلمية. لقد دفع أهل الغرب دماء كثيرة حتى انطلقت ضمائرهم وعقولهم نحو البحث عن مبادئ ومعايير أخلاقية مناسبة لحياة مزدهرة ومتطورة ومتقدمة. يجب ألا نوهم أنفسنا بأن أهل الغرب مدينون لنا بتدريسهم الأخلاق. لقد عمل مفكروهم وفلاسفتهم على فهم الحياة ونقلوا مفاهيمهم للناس وبثوا الوعي بالصفوف، وأقاموا ثقافات متطورة تستوعب الآخر وتستوعب كيفية إقامة علاقات عامة على أسس أخلاقية متينة فتقدموا في مختلف مجالات الحياة، وحققوا الانتصارات المتلاحقة علينا. ولهذا أصبح أهل الغرب مرجعية أخلاقية عالمية، وأصبحوا سادة تدين لهم الأمم بالإنجازات العلمية والتقنية.
المشكلة هي أننا لسنا على استعداد من الناحية التربوية حتى الآن لتبني الأخلاق الإسلامية عملياً. نحن نكثر من الشعائر بخاصة في المواسم الدينية، لكن يبدو أننا نستخدم الشعائر في كثير من الأحيان للتغطية على سوء أعمالنا. نحن لا نملك قوة كافية حتى الآن تمكننا من الالتزام بالتعاليم الإسلامية، ونفضل التسيب على الانضباط لأن التسيب ينسجم بقوة مع تركيبتنا النفسية والتربوية. الالتزام يتطلب الحرص على الصالح العام، وبتطلب تنقية القلوب والابتعاد عن الكراهية والأحقاد والتركيز على الإنجاز بدل التلهي بإسقاط الآخرين وتتفيه إنجازاتهم. نحن لم نصل بعد إلى الاستعداد التربوي الذي يتطلبه الالتزام، ولهذا نحن نسيء للإسلام من الناحية العملية ونفشل في أن نكون قدوة. فلا غرابة أن نظن أن الإسلام قد أثر بأوروبا قبل أن يؤثر فينا.
المسؤولية التربوية
لأن المدارس والجامعات ووسائل الإعلام محكومة ببرامج أنظمة حكم فاسدة، فإنه من العبث الطلب من أنظمة الحكم تطوير برامج تربوية تؤدي إلى تطوير منظومة قيمية عربية فإن المسؤولية تقع على عاتق المفكرين والفلاسفة والمثقفين الملتزمين في الوطن العربي. المثقف الملتزم هو الذي ينشغل بهموم الناس بهدف معالجتها وتوفير الراحة والاطمئنان لعموم الناس. ومن حيث أن المفكرين العرب يحتاجون وسائل الإعلام لإيصال الفكرة للناس وللتفاعل على نطاق واسع فإن هذه الوسائل لن تفتح أبوابها أمامهم بشكل مريح، ولهذا عليهم التفكير ببدائل لكي يصلوا إلى الناس. المسألة ليست سهلة لأن تطوير الأخلاق يصطدم حتماً بالحكام، وهنا تتمثل مآسي المفكرين العرب.