Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

أدب العائدين: خيبة العائد.. عادل الأسطة

أدب العائدين: خيبة العائد.. عادل الأسطة

  يسألني أنس العيلة السؤال التالي حول أدب العائدين: معظم الكتّاب العائدين يتحدث عن صدمته من العودة حين يكتشف أن الغرفة أو البيت الذي ترعرع فيه أصغر بكثير مما كان يتخيله حين كان في المنفى، فيعبرون ـ يقصد الأدباء العائدين ـ عن خيبتهم من صغر الأشياء التي كانت واسعة في خيالهم. هذا مثال على صدمة "طبيعية" لا تأتي من سياق سياسي. ما رأيك بهذا القول؟

 كم من عائد من الأدباء عاد إلى بيته؟ أقام محمود درويش في رام الله لا في حيفا، ومثله أحمد دحبور، ولم يعد يحيى يخلف إلى سمخ. الذين عادوا إلى بيوتهم هم من أبعدوا عنها بعد 1967، مثل محمود شقير وأكرم هنية وخليل السواحري ومريد البرغوثي وفاروق وادي، والثلاثة الأخيرون سرعان ما عادوا إلى المنفى. ولا أعرف نصوصاً للسواحري وهنية عبرا فيها عن البيت الذي عادا إليه، خلافاً لوادي والبرغوثي وشقير، وتختلف كتابة الأخير في أنه رصد التحولات التي طرأت على مدينة القدس في كتابه "ظل آخر للمدينة" (1998)، خلافاً لوادي الذي رصد التحولات التي طرأت على رام الله والبيرة والبيوت التي أقام فيها، وللبرغوثي الذي كتب عن رام الله ودير غسانة، والأخير أتى على ما قامت به أمه حيث بنت بيتاً جديداً.

بشكل عام كان الحلم كبيراً، وكان المنجز صغيراً، ولهذا حدثت الصدمة. تغنى الشعراء بفلسطين كاملة وعادوا إلى مدن محاصرة، ليحاصروا فيها وليعانوا في الدخول وفي الخروج، وكتب البرغوثي ودرويش عن المذلة التي تعرضا لها على الجسر، وحين زار درويش، ابتداء، مخيمات غزة شعر بالخيبة، وسرعان ما غادر القطاع، فالحياة هناك لا تطاق وكل شيء، صادم. لقد رأى البؤس والفقر وأدرك أن العودة هي عودة أفراد، وهي عودة سياسية، وعرف أن هناك لاجئين لن يعودوا، وربما أيقن أنه لا توجد عودة أصلاً.

ـ عاد العائد إلى وطنه، ولكنه لم يصل إلى بيته، كما حدث مع أحمد دحبور الذي عاد إلى وطنه ليقيم في غزة، ولم يعد إلى بلده حيفا التي ولد فيها والتي أصبحت جزءاً من "دولة إسرائيل".

أخلت العودة إذن بإحدى الاستعارات الرئيسة التي تشكل عليها الأدب الفلسطيني المعاصر، وهي أن الوطن هو البيت فلم يعد الأمر كذلك، وحدث انشقاق بينهما. هل تعتقد أن ذلك قد خلق صورة مختلفة للوطن في نصوص أدب العودة؟

هل كف أحمد دحبور، وهو يكتب مقالاته، عن استخدام العبارة الدالة: العودة إلى الجزء المتاح من الوطن؟ لقد قال في إحدى قصائده: "وصلت حيفا ولم أعد إليها/ يا حسرتي عليّ أم يا حسرتي عليها/ وصلتها ولم أعد إليها".

زار الشاعر مدينته ولم يعد إليها وشعر بحسرة مزدوجة: عليه وعلى مدينته. وحين زار الناصرة لم تكتمل فرحته فلم يلتق فيها بالشاعر توفيق زياد الذي كان توفي بحادث سير في 1994، وهو عائد من أريحا، بعد لقائه بالرئيس ياسر عرفات العائد، إلى الناصرة. وبما أن الناصرة لا تكتمل زيارتها، في حينه، دون مقابلة شاعرها توفيق زياد، فقد كانت المدينة غير المدينة التي شكلها في حلمه.

ومنذ فترة مبكرة كان درويش يميز بين الوطن وبين الدولة/ الكيان. الوطن هو فلسطين كلها، والدولة هي جزء من الوطن، وقد كتب هذا في نهايات 80 ق20، حين أثارت قصيدته "عابرون في كلام عابر" ضجة كبيرة.

لم ير فلسطين في الضفة والقطاع فقط، ففلسطين هي فلسطين وهي الوطن، وعلى أرضها يمكن أن تقام "دولتان"، ولكن يبقى الوطن هو فلسطين التاريخية كلها.

وكما ذكرت كتب وادي عن رام الله، ففيها نشأ وتربى حتى 1967، وكتب مريد البرغوثي عن رام الله ودير غسانة، وهذان المكانان هما عالم طفولته ومراهقته، وإن كان يزور القدس، ودرويش في "لا تعتذر عما فعلت" (2003) كتب عن حيفا والجديدة وبيت أمه فيها، ولاحقاً كتب "طللية البروة" (2007) و"على محطة قطار سقط عن القصيدة".

هؤلاء كلهم كتبوا عن التغيرات الطارئة على المكان الذي ألفوه وعرفوه، ثم لاحظوا كيف يهوّد، ولو امتد العمر بدرويش لربما كتب قصائد أكثر عن المكان في الذاكرة.

قصيدتاه المذكورتان تستعيدان الوطن في تحولاته، فيما كان عليه وفيما صار عليه بفعل الإهمال أو التهويد. غسان زقطان  في روايته "عربة قديمة بستائر" ، يعتمد على ما  روته له والدته عن قريتها وزواجها والقطار، إذ لم يكن غسان المولود عام 1954 يعرف البلاد وما كانت عليه، وان عرفها من خلال ذاكرة امه. ودرويش في "طللية البروة" لا يريد أن يرى الوطن وقد هوّد. إنه لا يرى البروة إلاّ كما رآها أول مرة في طفولته، وما رآه، بعد زيارة فلسطين إثر اتفاقات أوسلو ـ أي بعد 1996 ـ، ما رآه من شوارع مسفلتة ومصانع حديثة للألبان لا يعوّض الغزالة والبيت القديم، بل إنه لا يرى إلاّ الغزالة تحت الشباك، ولا يرى إلاّ خيوط العنكبوت. هكذا يرد على الصحافي الذي يقول له : انظر كيف غدت بلادكم الخربة، حين غدت تحت أيدي الصهيونية.

ـ هل حققت نصوص أدب العودة مستوى يصل إلى العالمية؟

ربما يتساءل المرء: كيف نعرف أن نصاً ما أو أديباً ما حقق مستوى العالمية؟ أو كيف بلغ أديب ما مستوى عالمياً؟ هل الترجمة معيار؟ هل الجوائز التي يحصل عليها معيار؟ هل تدريسه في جامعات عالمية، أوروبية وأميركية، معيار؟ هل ما ينجز عنه من دراسات باللغات العالمية هو معيار العالمية؟

قليلة هي النصوص التي ترجمت إلى لغات عالمية، وأعني هنا النصوص التي كتبها الأدباء العائدون. وقليلة أيضاً هي النصوص التي فازت بجوائز عالمية.

فاز كتاب مريد البرغوثي "رأيت رام الله" بجائزة نجيب محفوظ، وترجم، بناء على ذلك، إلى الإنجليزية. وجائزة نجيب محفوظ جائزة عربية، ولا أعرف كم طبعة من "رأيت رام الله" صدرت بالإنجليزية، كما أنني لا أعرف إن ترجم إلى الفرنسية أو الألمانية أو الإسبانية.

ربما يكون محمود درويش أوفر حظاً، فقد فاز بجائزة الأمير كلاوس (هولندا)، وفوزه فيما أعرف كان على مجمل أعماله، لا على نصوصه التي كتبها فقط عن تجربة عودته إلى رام الله.

بعض أشعار درويش ترجم إلى العبرية، لكن هذه ليست لغة عالمية، وأعني هنا بعض أعماله التي كتبت بعد أوسلو، فله قصائد ومجموعات عديدة ترجمت إلى اللغات العالمية الحية: الانجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية و... و... ولكن ما مقدار انتشار ما يترجم من أشعاره؟ وما مقدار ما يباع من هذه الترجمات؟ وأرى أن درويش، مع ما سبق، هو الأوفر حظاً لتحقيق مستوى العالمية، حتى اللحظة على الأقل.