الكتابة في موضوع مُستهلَك لا يصيب القارئ فقط بالملل بل والكاتب أيضاً. كيف وصلنا إلى نقطة تجعل الكاتب متردداً في الكتابة عن فلسطين، والقارئ متردداً في القراءة عنها؟ هل سيصل بنا الحال إلى إعتبار كل قضايانا شيئاً مُمِلاً وأمراً سخيفاً يبعث على الضجر مسجلين بذلك حالة نادرة من الإنهيار القِيَمي والأخلاقي والوطني وبداية مرحلة السقوط التام؟
العرب يركضون حول ذاتهم في دائرة لا نهاية لها. وعوامل السقوط المحيطة بهم هي أكثر وأقوى من عوامل النجاح. وفي واقع الأمر فإن العرب قد بدؤا مرحلة السقوط عندما سقطت القضية الفلسطينية. والعرب اللذين ساهموا بدور كبير في إنجاح السقوط الفلسطيني قد فعلوا ذلك أساساً من خلال القيادة الفلسطينية. والحديث عن إتفاقات أوسلو بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" لم تكن سوى عملية إشهار لواقع كان يتفاعل منذ مدة. وقيادات العرب اللذين إكتشفوا ضَعْفـَهم وهَوَانَهُم أمام "إسرائيل" لم يحاولوا إنقاذ أنفسهم من السقوط من خلال الإرتقاء إلى مستوى الصراع مع "إسرائيل"، بل إختاروا الطريق الأسهل من خلال مساعدة الفلسطينيين أنفسهم على السقوط حتى تتوازن الكفتين العربية والفلسطينية في السقوط. وحتى تُنـْقِذْ القيادات العربية نفسها أمام شعوبها من تهمة التهاون والتواطئ مع "إسرائيل" على حساب القضية الفلسطينية قامت برفع الشعار المشؤوم "نقبل بما يقبل به الفلسطينيون" وهم يقصدون بذلك القيادة الفلسطينية.
وقد فشل الفلسطينيون أنفسهم في منع ذلك السقوط أو في العمل على إفراز قيادات جديدة لقيادة مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني أو وضع حد للتمادي في عملية السقوط الفلسطيني وفي تحويل القضية الفلسطينية إلى مسلسل من الفشل المُحْبـِطْ للفلسطينيين عوضاً عن أن تكون حلماً جميلاً مُحَفِزاً لهم.
لقد ساهمت الأنظمة العربية ومعها بعض العرب في تعميق السقوط الفلسطيني من خلال مد يد العون والتأييد للقيادات الفلسطينية التي قادت ذلك السقوط وعلى رأسها السلطة الفلسطينية وإعطائها الدعم الذي تحتاجه لممارسة الضغط على الفلسطينيين، خصوصاً الرافضين منـهم. وقد رافق ذلك سياسة عربية غالت في قهر الفلسطينيين واحتقارهم بل والتشكيك في وطنيتهم بإعتبارهم مُقـَصـﱢرين في حماية وطنهم ومقاومة الإحتلال "الإسرائيلي". وتعالت الأصوات العربية التي تتفاخر بالتعاون مع "إسرائيل" وتعتبرها "دولة صديقة" بل "حليفة". وتفاقم الوضع إلى الحد الذي اخترقت فيه تلك الأصوات المريضة العالم العربي من المحيط إلى الخليج. وهذا لا يعني أن هذا قد أصبح صوت الأغلبية العربية، بل ما زال هو صوت الأقلية النشاز. ولكن المرعب أن أحداً لم يتخيل أن تصل الأمور إلى هذا الحضيض الذي يسمح أصلاً بالجهر بتأييد "إسرائيل" أو التحالف معها.
وقد ساهم هذا الوضع في إعطاء "إسرائيل" المجال للإمعان في اذلال الفلسطينيين وإعتبارهم كماً لا قيمة له، وسط صمت عربي وقبول سلطوي فلسطيني بإستبدال نهج النضال الفلسطيني بنهج الإستجداء السياسي والمالي من "إسرائيل" وأمريكا. وقد تفاقمت الأمور إلى الحد الذي جعل أكثر من مسؤول "إسرائيلي" يصرّح مؤخراً بأنهم لا يشعروا بأي حاجة أو رغبة في التحدث إلى الفلسطينيين بعد أن كان حلم أكبر مسؤول "إسرائيلي" قبل هزيمة عام 1967 هو في التحدث إلى أي فلسطيني. وقد ترجم هذا الوضع نفسه مؤخراً في تغيير "إسرائيلي" استراتيجي بالغ الخطورة حيث أسقطت "إسرائيل" من حساباتها الإستراتيجية الفلسطينيين كخطر أكبر على "إسرائيل" ووجودها وتم إستبدالهم بإيران.
إن السقوط الفلسطيني كان المؤشر أمام "إسرائيل" وأمريكا على أن السقوط العربي قد أصبح قضية وقت، وإختفى من المعادلة بالتالي أي تسؤال فيما إذا كان ذلك السقوط ممكناً أم لا.
وبعد أن نجحت الأنظمة العربية الإستبدادية في إفراغ الدول التي تحكمها من أي محتوى حقيقي ومؤسسي فاعل، أصبحت عملية التخلص من تلك الأنظمة مدخلاً إلى تفكيك تلك الأقطار المُفرﱠغَةِ أصلاً من أي مؤسسات فاعلة. وقد تم ذلك بأساليب مختلفة منها الغزو المباشر كما حصل للعراق، أو إستغلال "ثورات الربيع العربي" في إطلاق العنان لمسلسل من الصراعات داخل الأقطار العربية المعنية وإنطلاق الهويات المذهبية كعنوان للتغير بينما هي في الواقع عنواناً لتدمير النظام العربي وتفتيت دُوَلِهِ وتحويلها إلى دويلات وكيانات مذهبية.
لقد خلقت تلك الحالة وما تمخض عنها وما زال إلتباساً كبيراً في ذهن المواطن العربي أساسه إنهيار منظومات ومفاهيم كانت من المُسَلّمات التي يستند إليها في فهمه للأمور وأساساً للعمل المشترك بين الدول العربية. لقد أدى إنهيار تلك المنظومات والمفاهيم إلى إختلاط الأمور وأصبح من الصعب على المواطن العادي إستيعاب المتغيرات وربطها بما يعرفه من مفاهيم عاش في كنفها سنوات طويلة.
لقد تجلى مسلسل الإحتقانات والإختلالات الذي ضرب الوضع العربي في أبشع صورة بظهور تنظيم "داعش" على حين غـِرﱠة مُفَاجئاً معظم العرب بظهوره ابتداءً، وبنموه السرطاني السريع ووحشيته واجرامه وإنتشاره غير المبرر منطقياً أو تاريخياً، مما يضع مجمل الوجود الداعشي في دائرة الشكوك والاتهام، ناهيك عن الرفض جملة وتفصيلاً.
إن مرور الوقت قد ساهم في إيضاح العلاقه المحرمة بين داعش وأمريكا والتي تستبيح دماء وحريات وإستقلال الآخرين تحت "شعارات إسلامية" مُبهمة مقابل مكاسب حقيقية لأمريكا و"إسرائيل". وإتهام أمريكا والغرب للعرب بالدفع في إتجاه "الأصولية الإسلامية" و"التطرف الإسلامي" غير مبرر لأنه غالباً ما يشير إلى أنظمة حُكـْم تـُعْتبر تاريخياً أنظمة صديقة لأمريكا بل ومحسوبة عليها سواء أكانت أنظمة عربية أو أنظمة إسلامية غير عربية مثل باكستان وتركيا.
إن ما تطرحه أمريكا الآن أمام هذه الأنظمة من حلول، وإن جاءت تحت عناوين مختلفة، إنما تعكس نواياها الحقيقية تجاه العالمين العربي والإسلامي. ما تطرحه أمريكا في الحقيقة هو إعادة صياغة الإسلام والثقافة الإسلامية بما يناسبها ويناسب مصالحها ومصالح "إسرائيل" وبالطريقة والأسلوب الذي تختاره. وهذا الموقف يشكل إتهاماً صريحاً للإسلام والمسلمين بـ"التطرف والإرهاب" ودعوة إلى أن يَنـْصَبْ الجهد على معالجة ما تدعوه أمريكا بـ"مواطن الخلل في الإسلام" وبين المسلمين حصراً ودون النظر إلى أي عوامل أو مسببات أخرى. إن هذا الموقف جائر ولا يهدف إلى الحقيقة بقدر ما يهدف إلى الإتهام ومن ثم الإبتزاز. والطريق إلى الإبتزاز كان واضحاً وما زال يزداد وضوحاً وهو يتمثل بإتهام الإسلام بـ"التعصب" ومن ثم إتهام "التعصب" بـ"الإرهاب" ومن ثم إتهام من لا يقاتل "الإرهاب" بالطريقة التي تريدها أمريكا بحماية "الإرهاب". وهكذا تدور الأمور في حلقة مفرغة القاتل فيها إما مسلم عربي أو مسلم غير عربي والمقتول فيها عربي أو مسلم أو كل من يختار أن يكون في وسط الزحام لأسباب مجهولة وبغض النظر على دينه أو أصله العرقي.
إذا كان هذا هو الوضع فما هو الحل؟
لا يوجد هناك حلّ واحد لهذا الوضع البائس والمتفاقم. هنالك عدة مداخل تشكل في مجموعها طريقاً للحل. وأهم معالمها ما يلي:-
أولاً: أن يعلن العرب والمسلمون موقفـَهم الرافض للإرهاب بمحض إرادتهم وإستناداً إلى حضارتهم وإنطلاقاً من ثقافتهم وبعيداً عن أي ضغوط خارجية، وبحكم أن الإرهاب يتعارض وأحكام الإسلام التي نُصـﱠت في الآية الكريمة على أن ((…لا تقتلوا النفـس التي حرّم الله إلا بالحق))، والحق بالطبع يحدده القانون بعيداً عن الممارسات الوحشية بإسم الإسلام لتنظيمات مثل "داعش".
ثانياً: إعتبار مفهوم “الأمة الإسلامية” مفهوماً حضارياً وليس مفهوماً سياسياً. إن مثل هذا الموقف يجب أن يأتي ضمن فتوى إسلامية عامة ملزمة لكل المسلمين تغطي جميع الدول التي تدين غالبية سكانها بالإسلام. إن المفهوم السياسي ”للأمة الإسلامية” هو الأساس الذي تستند إليه تنظيمات مثل "داعش" في التبشير بدولة الإسلام، وهي الأساس الذي تستند إليه الإستراتيجية الأمريكية في تعاملها مع العرب ومع الإسلام وتحويلهم إلى مجموعة من "الإرهابيين"، واختصار دُوَلِهم الوطنية بكيانات مذهبية كوسيلة لتدمير هويتهم الوطنية وإلغاء وجودهم السياسي كعرب.
ثالثاً: إن الرابطة الوطنية أو القومية هي الأقوى والأكثر ثباتاً في الحفاظ على تماسك الدولة والمجتمع وتخليصهما من رواسب الماضي وتراكماته. والهوية الوطنية والقومية هي التي تفسح المجال أمام مواطنيها لممارسة حق المواطنه دون تمييز، وتلغي بذلك الأسس التي يستند إليها المخطط الحالي لتمزيق الدول العربية وتحويلها إلى كيانات مذهبية.
رابعاً: مقاومة أنظمة القمع والإستبداد والتفرد بالسلطة بإعتبارها أكبر عدو لمستقبل الوطن وإستقراره كونها أدﱠت إلى إفراغ المجتمعات المدنية العربية من مؤسساتها الفاعلة في حين أنها أبقت على العناصر والتجمعات الإسلامية بأشكالها المختلفة سواء أكانت معتدله أم متشدده، والتي شكلت بدورها الأرضية لظهور التنظيمات الإسلامية المتطرفة كرد فعل على القمع والإستبداد. هذا بالإضافة إلى أن هذه الأنظمة هي الحاضنة لسياسات الظلم والفساد والمحاباة التي خلقت حالة من الإحباط والقنوط والغضب بين المواطنين ودفعت بالبعض إلى أحضان الإنطواء الديني والتطرف و"الجهادية" والجنون المذهبي الدموي المُطبق. إن تخفيف هذا الإحتقان الداخلي لا يتم إلا من خلال الشفافية والمساواة وإحترام حقوق المواطنة وضرب الفساد بكافة أشكاله والتي تشكل أهم مدخل لمكافحة إنتشار التطرف والإرهاب بين أوساط الشباب الغاضبين.
خامساً: "إسرائيل" هي الخطر الأهم على مصالح العرب والمسلمين. وهذا الخَطـَرْ ابتدأ يأخذ أشكالاً متعدده. فهو إنطلق من مرحلة العدوان المباشر إلى مرحلة العدوان غير المباشر ولكن الأوسع من خلال تحالف إستراتيجي مع أمريكا مكـﱠنَ "إسرائيل" من تنفيذ مخططاتها الإقليمية من خلال الواجهة الأمريكية النافذة. أما الأن فـ"إسرائيل" قد إنتقلت إلى مرحلة أعلى في عدوانها من خلال تمزيق أعدائها وتحويلهم إلى دول مذهبية فاشلة تدور في فلك "إسرائيل" بل وتقوم بحماية مصالحها. وهذا يستوجب إعتبار "إسرائيل" خطراً مستمراً داهماً يشمل الجميع لأن وجودها هو حالة إعتداء مباشر على الفلسطينيين وتهديداً لمستقبل العرب والعروبة وسيفاً مسلطاً على الإسلام والمسلمين.
إن معالم السقوط تزداد وضوحاً من خلال قدرة الآخرين على تحقيق أهدافهم على حساب واقعنا وأهدافنا الوطنية. السقوط الفلسطيني هو نجاح لـ"إسرائيل" والسقوط العربي هو نجاح لأمريكا و"إسرائيل" وسقوط الإسلام هو نتيجة حتمية لإصرار البعض على إعتباره هوية سياسية وأداة لتحقيق أهداف سياسية.
* مفكر ومحلل سياسي