استقُبلت عملية حزب الله في مزارع شبعا رداً على اعتداء القنيطرة بالترحيب والحماس الشعبي العارم ومن القوى السياسية، وكان الشعب الفلسطيني وتنظيماته في مقدمة هؤلاء، وأثارت العملية أكثر من سؤال حول ماذا بعد؟ وبالذات السؤال الأهم ماذا بعد البيان رقم واحد لحزب الله.
المحللون السياسيون من كل لون وعلى أكثر من فضائية ووسيلة إعلام وتواصل اجتماعي أفاضوا في تحليل العملية وأبعادها ومراميها وتداعياتها، وفي تبيان القدرة السياسية والأمنية والعسكرية والتخطيطية للحزب، وبطولة وكفاءة التنفيذ والمنفذين. وأجاب عدد منهم ولو بتحفظ على الأسئلة وعلى السؤال الأهم..
مع ذلك ومع كل ما قيل من تحليلات، يبقى هناك مجال لإيراد نقطة تبدو خاصة في الأهمية، إضافة إلى ملاحظة، ثم سؤال.
النقطة الهامة، إن عملية الرد تمت على أرض لبنانية لا تزال واقعة تحت الاحتلال الصهيوني، قامت بها بكفاءة واقتدار قوة مقاومة لبنانية، ضد هدف عسكري محتل مدجج بالسلاح يتمختر ويستعرض على الأرض اللبنانية المحتلة. لم يصب في العملية مدني واحد ولا موقع أو مؤسسة أو مسكن مدني، ولا زرع أو ضرع.
هذا يضع العملية، إلى جانب المشروعية الوطنية، في صلب المشروعية الدولية كما يقرها المجتمع الدولي وجميع قوانينه وأعرافه، وهي التي تعطي حق المقاومة لأي شعب تقع أرض وطنه أو جزءٌ منها تحت الاحتلال. وهذا يسقط عن العملية أي نعت اتهامي مما درج العدو وحلفاؤه على إطلاقها من نوع "إرهاب" أو "عدوان" أو خلافها، ويقلص إلى حد كبير إمكانية تحريك المجتمع الدولي وهيئاته باتجاه إدانة العملية أو المطالبة بإجراءات عقابية.
وإضافة إلى كل ما تحمله العملية من رمزية عميقة على المستوى العسكري والأمني، ومستوى الجهوزية والندية، فإن اختيار المكان والهدف يظهر درجة استثنائية من الذكاء، ومن القدرة المرتاحة وطويلة اليد في اختيار الهدف المناسب في المكان المناسب والتوقيت المناسب. لقد جاءت العملية مخالفة لكل التوقعات، وأولها توقعات العدو المحتل، وأذكى وأبعد نظر وأقدر منها جميعاً.
أما الملاحظة، فإنها تأتي من موقع الإعجاب الشديد بتعاطي حزب الله الإعلامي مع العملية. بداية هذا التعاطي كان بعد عدوان القنيطرة، فبقدر ما أعطى للشهداء، على أكمل وجه، حقهم في التكريم والإضاءة والحشد، فقد خلا من عنتريات التهديد والوعيد يطلقها عديد مسؤوليه ورموزه على شاشات الفضائيات واكتفى بكلام قليل موزون واضح ملتزم وقوي.
بعد عملية الرد البطولية في مزارع شبعا لم يصدر عن الحزب سوى بيان مقتضب بكلمات بسيطة واضحة وقوية في نفس الوقت، ودونما بهورة أو طنطنة أو جلجلة من الحزب أو من أي من مسؤوليه. لقد ترك الحزب مساحة الحدث على اتساعها وزمانه على استطالته لقوة الفعل، وليعطي الفعل كامل مفاعيله ومعانيه بحرية، ولتتفاعل على مساحته وزمانه مشاعر ومعاني الفخار والاعتزاز وزهو قوة الحق والاقتدار، وترك للكلام زمناً مؤجلاً، ولكن محدداً أيضاً بكلام مسؤول قاله الأمين العام.
إنه تطبيق خلاق لجدلية الفعل والقول، التي تعني، في مثل هذه الحالة، تواضع القول أمام قوة الفعل ولحاقه تالياً به، وانسجام علوّه ونبرته وتناسبها مع قوة الفعل. لقد ظلت هذه واحدة من مزايا وخصائص حزب الله منذ بداياته الأولى، وأسهمت مع خصائص أُخرى في خلق حالة من الاحترام له والتصديق لأقواله من أعدائه ورافضيه قبل أنصاره ومؤيديه.
وأما السؤال، فهو متى وكيف تتحول الأقوال والدعوات إلى فعل وواقع.
فبعد اعتداء القنيطرة، وبالذات بعد عملية شبعا، امتلأت شاشات الفضائيات بحديث كثير ومفرح عن وحدة المقاومة العربية باختلاف بلدانها وفصائلها، والدعوة إلى ضرورة تكامل فعلها المقاوم وجهودها ومواقفها بدءًا بالتنسيق العملي، مع حديث عن غرفة أو غرف عمليات مشتركة.
لا سبب يدعو إلى التشكيك بصدق النوايا والقناعات وراء هذا الكلام وتلك الدعوات، فهي تأتي في ظرف يستدعيها بشدة. لكن السؤال، ومن موقع الاهتمام والترحيب، هو عن جدية المتابعة والتنفيذ، وإمكانية التحقيق، وعن الزمن اللازم.
بدون تجاهل للعوامل الموضوعية القائمة أو التقليل من تأثيرها، فإن هناك أسئلة تفصيلية تتداعى عن هذا السؤال حول الأوضاع الداخلية لأطراف المقاومة إن على المستوى التنظيمي أو المستوى الوطني ومدى ومستوى ملاءمتها للسير مع هذا الهدف النبيل، وحول أولوياتها وطبيعة العلاقة فيما بينها، وحول الظروف المحيطة، و...
الرجاء هو أن تكون قوى المقاومة بمستوى ما نادت به، وعلى درجة من الجدية والمثابرة بما يخرج الدعوات إلى فضاء الواقع ولو بتدرج متصاعد نحو الهدف الأساس. وإذا ما تحقق ذلك، فانه سيشكل بلا شك تقدماً نوعياً في واقع المقاومة على المستويين الوطني والقومي، وتغييراً موضوعياً في الواقع القائم بشكل عام.
وليس أصدق في مثل هذا الحال من الاختتام بقول الشاعر أبو تمّام:
السيفُ أصدقُ إنباءً من الكتب في حده الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ