لا يتورع المطبعون عن مفاجأتنا بأشكال جديدة من التطبيع في كل مرة نتوقع أنهم إما اختفوا عن الأنظار، أو تراجعوا عن ممارساتهم التطبيعية بسبب فشل نهجهم أو بسبب حجم الجرائم التي ترتكبها "إسرائيل"،
وآخرها قتل أكثر من 2200 مدني من بينهم 580 طفل وجرح أكثر من 12 ألف امرأة وطفل، وتدمير ما يزيد على 100 ألف منزل ومؤسسة..!! أي زيارة سريعة لحي الشجاعية، أو قرية خزاعة، أو بيت حانون، أو الزنة في قطاع غزة لابد أن تظهر مدى الحجم الهائل لجرائم الحرب التي ارتكبتها "إسرائيل" بحق السكان الآمنين، ومن المرجح أنه لا زات هناك بعض الدماء التي لم تجف بعد. فالمجزرة لم يمض عليها 6 أشهر فقط..!!
ولكن من الواضح أن نهج التطبيع يعتمد على الذاكرة الضعيفة. فأنت تستطيع أن تنسى، أو بالأحرى تتناسى، هذه الجرائم في سبيل إما مصلحة شخصية، أو مصلحة طبقية يتم التعبير عنها من خلال شعارات وطنية أصبحت مستهلكة، أو حتى ادعاء تمثيلك لنهج مقاوم يتراوح بين ما يٌطلق عليه جزافاً "انتفاضة دبلوماسية" أو تصغيرك لأشكال المقاومة التي لا تتناسب مع حجم عباءتك الأيديولوجية.
فبعد فترة وجيزة من انتهاء الحرب الإبادية على قطاع غزة تم عقد مؤتمر من قبل "مبادرة جنيف" في تل أبيب بعنوان "ما بين الحرب والسلام"، بمناسبة اليوم الدولي للسلام..(!)، وبحضور وزير سابق من قطاع غزة المكلوم. ثم يقوم وزير آخر سابق، من غزة أيضا، بتلبية دعوة من حزب "البيت اليهودي" اليميني العنصري إلى مناظرة سياسية في حانة في تل أبيب هذا الشهر كجزء من الدعاية الانتخابية للحزب الصهيوني، لكن الوزير السابق لم يكن يعلم أن المناظرة جزء من حملة سياسية تم التحضير لها من قبل المرشح لانتخابات "الكنيست" الإسرائيلي من قبل "البيت اليهودي" وزير المستوطنات في الضفة الغربية السابق، داني ديان..! وادعى الوزير الفلسطيني أنه لم يكن يعرف أن الحديث يدور عن حدث انتخابي وأنه مدعو إلى اجتماع بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. مع العلم انه يحضر لكل مكان في "إسرائيل" يريدون فيه سماعه. وآخرها مؤتمر في جامعة بار إيلان كي" يعرض وجهة نظر الجانب الفلسطيني". وكأن سياسة الاحتلال والتطهير العرقي والإبادة الجماعية تقوم بسبب عدم معرفة "الطرف" الإسرائيلي بوجهة النظر الفلسطينية على الرغم من توقيع اتفاقيات أوسلو قبل أكثر من 20 سنة..!
ثم تقوم صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية بنشر تقرير عن نية رجل أعمال فلسطيني افتتاح ملهى ليلي في رام الله، يُسمى "دندرة" بجوار مسرح القصبة يقوم من خلاله بتوجيه دعوات مفتوحة لأفراد إسرائيليين وفرق فنية حيث أعرب للصحيفة عن أمله أن "يأتي موسيقيون إسرائيليون للعزف" في الملهى المزمع افتتاحه قريباً..!!
وفي قطاع غزة المكلوم يتم فجأة إغراق الأسواق بالعصير الإسرائيلي" تبوزينا" بعد أن كانت خالية منه تماماً لفترة طويلة، على الرغم من توفر بدائل وطنية وعربية، وعلى الرغم من الإجماع الفلسطيني الذي تجسّد خلال الحرب بمقاطعة كل البضائع الإسرائيلية التي يتوفر لها بدائل مما ترك أثراً واضحاً على الاقتصاد الإسرائيلي بسبب استجابة العديد من دول العالم للنموذج الذي شكله قطاع غزة الصامد. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن شركة (يفئوره تبوري) الصهيونية المنتجة لهذا العصير من الشركات التي تفتخر بمشاركتها الريادية في تعزيز سياسة الاستيطان الصهيوني اقتصادياً منذ النصف الأول من القرن المنصرم وتزويد جيش الاحتلال الصهيوني بمنتجاتها بعد عملية التطهير العرقي التي صاحبت "إقامة الدولة" (الكيان الغاصب) عام 1948. بالإضافة لقيامها بدعم مركز "بيريس للسلام" الذي أسّسه مجرم الحرب شمعون بيريس، كما أنها تقوم بتوفير الدعم الميداني لجنود لواء المظليين الذي خرّج أرئيل شارون. ويأتي السماح باستيراد العصير الى القطاع في إطار سياسة "جديدة" تسمح لتجار غزة بإدخال مشروبات غازية وعصائر وبعض السلع الأخرى من "إسرائيل" والتي يوجد لها بدائل.
من المحزن أن هذه الفعاليات التطبيعية تأتي كلها في سياق مناقض تماماً لما أنجزته حملة المقاطعة العالمية ذات القيادة الفلسطينية والتي أرقت مضاجع القيادة الإسرائيلية كما توضح آخر مقابلة أجرتها صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية مع مجرم الحرب أيهود باراك حديثاً، وقبله كانت تسيبي ليفني ويائير لابيد قد دقا ناقوس الخطر من "التهديد الاستراتيجي" الذي يشكله تنامي حملة المقاطعة وعدم الاستثمار وفرض عقوبات، المعروفة باسم "بي. دي. أس"، على الدولة العبرية.
إن الفلسطيني، سواء كان من سكان مناطق الـ67 أو الـ48 أو المنافي، في حالة اشتباك متواصل مع أشكال الاضطهاد المتعددة التي تمارسها "إسرائيل". وما يميز حملة المقاطعة هو وعيها التام أنها تخوض معركة تشكيل الوعي الفلسطيني كمشروع تحرري لا يرى في تحسين شروط الاضطهاد والقمع أي شكل من أشكال الحرية. فالمقاطعة مشروع مقاوم يعتبر تحرير العقل مقدمة ضرورية لتحرير الأرض والإنسان، مشروع لا يتنكر بأي شكل من الأشكال لدماء الشهداء وأنين الجرحى، لا يختزل المقاومة بشكل إقصائي، ولا يتبع سياسة انهزامية على حساب الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني من أجل مكاسب آنية. وهذا بالضبط ما يسعى له المطبعون، أي ضرب المنظومة الأخلاقية الوطنية لدرجة أن بديهية عدم التعامل مع الاحتلال أصبحت تحتاج إلى مناظرات وجدال ومحاولات إقناع على الرغم من وجود شبه إجماع وطني على تعريف التطبيع الذي صدر عام 2007، وأن كل الأمثلة التي تم طرحها في هذا المقال تعتبر تعدياً صارخاً على معايير المقاطعة. فهل لم تصل هذه المعايير إلى شاشات اللاب توب التابعة لمن يقوض الإجماع الوطني، على الرغم من أنها وصلت إلى الفيزيائي الشهير ستيفن هوكنجز، والرئيس البوليفي إيفو موراليس، والرئيس الكوبي السابق فيدل كاسترو، والأسقف دزموند توتو، ومغني الروك روجر ووترز، والمفكرة جوديث بتلر، وأعضاء 6 جمعيات أكاديمية أمريكية، والحزب الحاكم في جنوب أفريقيا، والعديد العديد..؟!
أم علينا أن نفترض "حسن النوايا" لمن يقوّض معايير المقاطعة؟!