منذ أسبوع بالتمام، في 14 تشرين الثاني/نوفمبر، أقرت السلطات الإسرائيلية مشروعاً بدأته العام 2009 لإنشاء «حديقة قومية» في ما تسميه «القدس الكبرى» التي تضم الجزأين الشرقي والغربي من المدينة والمستوطنات العديدة التي تطوقها. فعلى الرغم من المقاومات، صادقت اللجنة التي كلفتها تلك السلطات على مصادرة 740 دونماً من أراضي قريتي الطور والعيسوية الفلسطينيتين
الملاصقتين للقدس المحتلة، بحجة بناء تلك «الحديقة». في الواقع، هذه خطوة جديدة لربط مستوطنة «معالي أدوميم» بالقدس المحتلة، ولقطع التواصل العمراني والمروري بين القدس ومحيطها الذي ما زال فلسطينياً.
***
«القاعد في القدس خسران والقاعد براها خسران» يقول أحد ركاب التاكسيات الصباحية التي توصل بين جبل الزيتون وباب العمود، البوابة الرئيسية للبلدة القديمة، واصفاً حال المدينة المطأطئة الرأس منذ سقوطها بالكامل قبل أكثر من أربعين عاماً. القدس التي قيل في وصفها الكثير، فاختلط الخيالي بالواقعي، والمبالغ به بالحقيقي، والمقدس بالمدنس، ساتراً التفاصيل اليومية لأهل مدينة لا يرى العالم منها سوى قبة الصخرة. وتغلب جدلية الربح والخسارة على علاقة المقدسيين بمدينتهم التي فرض الاستعمار فيها واقعاً جديداً منذ هزيمة 1967، حيث بات الفلسطيني طارئاً على مدينته، وبات يتوجب عليه أن يثبت على الدوام للاستعمار أنه ابن البلد وله بيت فيه. الاستعمار الذي أعلن أبدية «القدس الكاملة والموحدة عاصمة لإسرائيل» كما جاء في سجلّ قوانينه عام 1980، أراد بذلك أيضاً الإعلان بأن الفلسطينيّ بات مؤقتاً في القدس.
ولا تصير القدس «عاصمة إسرائيل» بحق إلا إذا مُسخت وتبدلت بما يتلاءم والصورة التي رسمها المستعمِر في خياله: مدينة تجمع بين الحداثة والقدسية التاريخية «اليهودية»، بشوارع واسعة وحدائق خضراء و«ترام» أبيض خفيف يشقها من شرقها إلى غربها، فتصير عاصمة وحاضرة ومركز لمشروعه الاستيطاني بالنيْل من «كامل التراب الوطني»، فيما يقف الفلسطيني بجسده وبيته عقبة يتوجب التخلص منها. عملت إسرائيل لتحقيق هذا المشروع وفق منطق بسيط: ضم أكبر مساحة من الأرض ثم إقصاء أكبر عدد من الفلسطينيين. ومنذ 1967 جرى ضم الضواحي إلى الشق الشرقي للمدينة فتوسع من 6.5 كلم مربع تحت الحكم الأردني إلى ما يقارب 123 كلم مربعاً، بلعها الاستعمار داخل حدود «بلدية القدس» الإسرائيلية وضمها إلى الشق الغربي المهوّد والمهجّر بالكامل منذ العام 1948. فيما أُعدت معادلة رياضية لا يجب أن تتعدى بموجبها نسبة الفلسطينيين، البالغ عددهم اليوم قرابة 372 ألفاً، ما نسبته 30 في المئة من مجمل عدد السكان، في حين ترتفع أعداد المستوطنين داخل الأحياء الفلسطينية في القدس وفي المستوطنات التي تطوقها إذ يفوق عدد سكانها 200 ألف مستوطن.
ثمن أن تكون مقدسياَ
لا يمرّ يوم على المقدسيين من دون أن يذكروا مفردات مثل ترخيص ومحامي ومهندس. «ترخيص البناء»، أي طلب الإذن من السلطات الإسرائيلية لبناء بيت، هو عنوان الوسيلة «القانونية» التي يستعملها الاستعمار لاستنزاف المقدسيّ وحمله على ترك بيته. فسياسة تراخيص البناء خلقت حالة عبثية وعدمية: وضع الاستعمار إطاراً قانونياً وهمياً ليسيّر الواقع الذي يريد، منتجاً حلقة مفرغة تحتم على المقدسيّ استصدار تراخيص بناء يرفض الاستعمار أصلاً منحه إياها. وإذا ما بنى المقدسيّ يصير «مجرماً» مخالفاً للقانون. وكانت إسرائيل قد أعدّت خرائط هيكلية تضمْن أرضاً أكثر وفلسطينيين أقل، فمسحت أجزاء كاملة من الحارات العربية من المخططات المستقبلية وتم استبدالها بمستوطنات يهودية أو حدائق أثرية أو مساحات خضراء أو مراكز عسكرية، فلم يبق أمام المقدسيين سوى البناء بدل انتظار تراخيص لن تأتي.
يُدخل هذا الخيار المقدسيين دائرة «المؤقت»، حيث يبدأ العد التنازلي لزمنهم المتبقي في بيوتهم ريثما يقرر الاستعمار هدمها بعبثية مفرطة. فمثلاً تريد إسرائيل، المهووسة بالغيبيات والحداثة في الوقت ذاته، أن تقيم مكان بيوت الفلسطينيين في حي البستان بمنطقة سلوان المحاذية لأسوار البلدة القديمة، حديقة «تلمودية» متخيَّلة أسوة بتلك التي بناها الملك داود، باسم «حديقة الملك»، فأعلنت عن الحاجة لهدم 88 بيتاً «غير مرخص» تقع في الأرض المخصصة لبناء الحديقة! كما ارتأت إسرائيل وحتى وقت ليس ببعيد معاقبة المقدسيين الذين اتهمتهم بارتكاب «مخالفات أمنية» وتحديداً عمليات تفجيرية عبر هدم بيوتهم. بذرائع كهذه أو أخرى، وليُعاقِب الاستعمار الفلسطيني على مجرد وجوده في القدس، يَهدم البيوت بالمفرق والجملة، وقد بلغت أعدادها منذ العام 2004 ولغاية الآن 479 مبنى سكنياً، 53 منها هُدمت هذا العام، وهو ضعف عدد الهدم العام الماضي، مشردة 1892 مقدسياً.
ولا يقل الاستنزاف السابق على عمليات الهدم تدميراً ووطأة على المقدسيّ من الهدم ذاته، إذ تشكل المنازل الاستثمار الأكبر للإنسان في حياته. يعدّ بناء البيت بالنسبة للمقدسيين، الذين تقبع 79.5 في المئة من أسرهم تحت خط الفقر، إسهاماً بالغاً. إلا أن نفقة البيت في القدس لا تنتهي بانتهاء بنيانه، إذ يضطر المقدسي للدفاع عن وجوده فيه ملتجئاً لمحامين ومهندسين تعدّ القدس بالنسبة لهم منبع ذهب، حيث يتقاضون آلاف الدولارات مقابل الترافع في قضايا هدم البيوت وإخلائها ومصادرتها. ولسان حال المقدسيين أنهم يدفعون فاتورة شهرية مقابل الكهرباء والماء وخدمات المحامي. يُضاف إلى كل هذا، الغرامات التي يفرضها الاستعمار على المقدسيين «المخالفين» بآلاف الدولارات شهرياً، ضارباً عصفورين بحجر، حيث يهجِّر الفلسطيني ويفقره في الوقت ذاته، فيما يُثري خزينته على حسابه. وقد لا تكون قضية أبلغ في وصف العبثية التي يواجهها المقدسيّ أكثر من قضية هدم بيته بيديه لتوفير المبلغ الباهظ الذي يفرضه الاستعمار عليه بسبب «تكلفة الهدم»، فهل يستطيع الإنسان أن يهدم بيته من دون أن يملأ ردْمه أحلامه وروحه!
وفي حالات أخرى، يُبقي الاستعمار على البيت فيما يطرد أهله منه لتوطين مستوطنين يهود في قلب الحارات الفلسطينية، وتحديداً تلك الواقعة على خط الطول بين القدس الغربية والمستوطنات المطوِّقة للقدس مثل حييّ الشيخ جراح ووادي الجوز، بهدف خلق تواصل جغرافي بين الأخيرة والقدس الغربية وإحكام قبضته على قدسه «الموحدة». وقد شاعت إقامة جمعيات يهودية استيطانية مستقلة نظرياً عن مؤسسات «الدولة»، باشرت منذ إقامتها في الثمانينيات بحملات دعاوى ملكية يهودية تعود إلى ما قبل 1948، ضد مقدسيين يقطنون بيوتهم. فيلقى المقدسيّ نفسه أمام كوكبة من الشروط التي تحيل أمر إثبات حقه في بيته مستحيلاً: تدعم السلطات الإسرائيلية هذه الجمعيات الاستيطانية من خلف الكواليس عبر مدها بالمستندات وغض الطرف عن عمليات تزوير مستندات وصفقات لتثبيت ادّعاء الملكية اليهودية في الأرض. يُضاف إلى ذلك أن المقدسي، وقد تبدلت سيادة مدينته مراراً، يلقى صعوبة في الحصول على المستندات اللازمة من أجل إثبات ملكيته، فيضطر إلى الاستعانة بالأرشيفات العثمانية والأردنية وغيرها، متجشماً بذلك عناء وكلفة شديدين.
ولا تنضب أسباب الاستيلاء على الأرض في القدس، فقد صودرت دونمات شاسعة لبناء جدار الفصل منذ العام 2002 الذي عزل القدس عن اتصالها التاريخي بباقي أراضي الضفة الغربية. كما استولي على الكثير من البيوت والأراضي بادّعاء غياب أهلها عن القدس وفق «قانون أملاك الغائبين»، وتحديداً من فلسطينيي الضفة الغربية الذين باتوا منفصلين بفعل الجدار عن القدس، فأعلنت إسرائيل «حقها» في مصادرة أملاكهم نظراً لـ«غيابهم»! ناهيك عن الأراضي التي تصادر من أجل شق الشوارع والبنى التحتية للمستوطنات المتفاقمة. في قلب كل هذا يزداد الاستعمار ضراوة وفتكاً ببيوت القدس وأراضيها في كل مرة يريد فيها إرضاء يمينه المتطرف أو معاقبة «السلطة الفلسطينية» على ما لا يرضيه منها.
مقدسيون مع وقف التنفيذ
لو كان الزمن ربما - حصى وورقاً وقماشاً، لكان أفرد له المقدسيون سوقاً في البلدة القديمة، وتداولوه سلعة تبقيهم في مدينتهم. هم الذين تدفعهم الأحوال بعد خسارة بيتهم لمواجهة معركة جديدة مع الاستعمار، تتمثل هذه المرة بالبقاء داخل حدود المدينة إذ يعرضون أنفسهم بانتقالهم للسكن في الضفة الغربية، التي تعتبر الامتداد الجغرافي، التاريخي، الاقتصادي والاجتماعي لهم، لخطر سحب إقامتهم المقدسية وفق «القانون الإسرائيلي»، أسوة بـ14،263 مقدسياً سُحبت إقاماتهم المقدسية منذ العام 1967 ولغاية نهاية العام المنصرم، ما يعني حرمانهم من حقهم في الدخول والعمل والعيش في القدس إلا بتصريح من الاستعمار. عليه، فعادة ما ينتقل المقدسيون الذين هدم الاستعمار بيوتهم للسكن لدى أقاربهم في القدس ذاتها، علماً بأن إمكانية الاستئجار باتت صعبة للغاية في مدينة أقل ما يقال عن الإيجار فيها إنه فاحش الثمن. فتؤدي هذه التعقيدات والتغيرات إلى اكتظاظ سكاني خانق، كما تؤثر على لحمة العائلة المنكوبة إذ تضطر إلى التوزع بين عدة بيوت أقارب ريثما يحلّ الفرج.
الفرج الذي ينتظره المقدسيون يبدو لهم عصّياً أمام الشعور الهائل بالعجز والفقدان والاكتئاب الشديد الذي يصيب كل أفراد العائلة، كما تشير دراسات المؤسسات الفلسطينية المختصة، مثل «المقدسيّ»، إذ تنشأ علاقة متبادلة من الإحباط والعجز والغضب بين والديْن غير قادرين على حماية أبنائهم، وأبناء فقدوا الثقة بكل شيء. وينجم عن كل هذا تراجع في الصحة والطاقة الجسدية حيث سجّل ارتفاع بإصابات الضغط وأمراض القلب والأعصاب. ويواجه الأطفال على وجه خاص صدمة نفسية تؤثر بشكل بالغ على قدرتهم على متابعة دراستهم، كما يفقدون المكان الذين يستطيعون إنجاز وظائفهم فيه، ناهيك عن اضطرار الكثيرين منهم ترك مدارسهم بحكم فقدانهم لمكان سكناهم القريب منها.
وماذا عن السياسة، و«القدس عاصمة فلسطين»؟ و«على القدس رايحين شهداء بالملايين»؟ أهل القدس يعلمون أن لا مليونية ستأتي إذا ما هُدم بيت في مدينتهم ولا قادة تقودها. كيف والقادة الأوسلويون قد رأوا بها استثماراً خاسراً أقصوه من مشروع «ميني» وطنهم، تاركين إياها لرحمة «الحل النهائي»، مكتفين بإقامة وزارة صورية باسم «وزارة القدس» تبعد أمتاراً معدودة من المدينة! هذه المدينة التي باتت مرتعاً تسرح وتمرح فيه الجمعيات الأهلية الإسرائيلية والأجنبية لاهثة من محكمة إلى أخرى، موزعة أموالها لخلاص «أشقياء بيت المقدس»، آتية بدفعات من الأجانب للتفرج عليهم بجانب ركام بيوتهم. في مدينتهم اليوم، يعرف المقدسيون أنهم يقفون وحيدين أمام واقع مدمّر، باتت فيه واهية الأسئلة المتعلقة بجدوى البناء والتوجه إلى المحاكم، وعما إذا كان ذلك يشرّع الاستعمار، وأجندات الجهات المانحة وغيرها من الأسئلة المنبثقة من صلب السياسة... ولا تمت بصلة لواقع الحياة اليومية. إلى ماذا سيؤول وضع المدينة؟ ذاك لا تحدده لا الأطراف الأجنبية ولا الإسرائيلية ولا الأوسلوية. وحدهم المقدسيون، ومن صلب واقع استعماري مظْلم، سيشقون طريقهم ويقررون في أي من سبل مدينتهم سيمضون.