جرياً على عادة الأنظمة العربية، تكثر السلطة الفلسطينية من الهرولة إلى الأمم المتحدة على أمل أن يتوفر شعاع يؤدي إلى تسوية القضية الفلسطينية. ومثل العرب، تخرج السلطة الفلسطينية من سعيها بالخذلان والإحباط إما لأن الأمم المتحدة لا تتخذ القرار المرجو، أو لأنها عاجزة عن التنفيذ إن هي اتخذت قرارا لصالح الفلسطينيين.
وكما هو متداول في أروقة الأمم المتحدة، جعل العرب والسلطة الفلسطينية أنفسهم موضوع تندر واستهزاء أمام الأمم على اعتبار أن العرب يعدون مئات الملايين وينتشرون على مساحة جغرافية واسعة، ولا حيلة لديهم لمواجة إسرائيل إلا عبر الشكاوى والبكاء والعويل.
تشكل الشكاوى العربية وشؤون العرب عموما نسبة عالية من حجم تشغيل الأمم المتحدة، ولولا تذمرهم المستمر لوجد العديد من الموظفين في الأمم المتحدة أنفسهم في الشارع بدون وظائف. وقد تجسدت أخرى الشكاوى بطرح مشروع السلطة الفلسطينية على مجلس الأمن لتحديد موعد لإنهاء الاحتلال للضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن المشروع فشل في الحصول على الأصوات اللازمة لطرحه على المجلس.
ارتجالية الخطوة الفلسطينية
كان أمام السلطة الفلسطينية ثلاث عقبات لا بد من تجاوزها لكي تحصل على مبتغاها، وهي:
1- تتمثل الأولى في تجاوز حاجز الأصوات التسعة الضرورية لكي يطرح المشروع الفلسطيني على مجلس الأمن، وكان معروفا أن هذه الأصوات غير مؤكدة، خاصة أن الولايات المتحدة تقف بالمرصاد، وتلجأ إلى الضغط على الدول الأعضاء في المجلس لثنيها عن التصويت لصالح المشروع، وقد نجحت في ذلك.
2- أما العقبة الثانية فتجسدت في النقض الأميركي (الفيتو) في حال حظي المشروع بالمرور إلى المجلس، وقد أبلغت أميركا السلطة الفلسطينية في أكثر من مناسبة بأنها ستنقض المشروع. لكن الولايات المتحدة تجنبت النقض بالضغط على الدول المعنية لتحجب أصواتها.
3- شكلت إسرائيل العقبة الثالثة لأنه من غير المتوقع أن تلتزم إذا صدر قرار لصالح السلطة، ولا توجد مرجعية تنفيذية دولية ترغم إسرائيل على التنفيذ، ومن المحتمل أن تقوم دول عظمى بتحريض إسرائيل على عدم التنفيذ.
السلطة الفلسطينية كانت على وعي تام بهذه الأمور، لكنها لم تفسر للشعب الفلسطيني لماذا ذهبت إلى الأمم المتحدة وهي ترى الفشل أمام عينيها؟
مجلس الأمن غطاء لعورات السلطة
عبر عشرين عاما ونيف، أثبتت السلطة الفلسطينية فشلها على مختلف المستويات الاجتماعية والسياسية والتعليمية والاقتصادية والأخلاقية والأمنية، وعجزت تماما عن المحافظة على وحدة الشعب الفلسطيني، وخربت النسيجين الاجتماعي والأخلاقي، وأبقت لقمة خبز الشعب بأيدي الأعداء الذين سلبوا شعب فلسطين إرادته الحرة وحولوه إلى مجرد أدوات بأيدي الآخرين.
ويبدو أن القائمين على السلطة لا يفهمون حجم التخريب الذي أحدثوه في جسد الشعب الفلسطيني وفي القضية الفلسطينية، ولا يدركون أن عليهم ليّ رقبة الحصان ليغير اتجاهه نحو رؤية جديدة لمعالجة الانهيارات الداخلية الفلسطينية. وواضح أن من يسمون أنفسهم بقيادات هذا الشعب لا توجد لديهم المعارف الضرورية لإدراك مدى التراجع الذي مُني به شعب فلسطين، وهم لا يستطيعون معالجة الأمور على الرغم من مكابرتهم أحيانا، ورسم صور وردية لأوضاع قبيحة.
وبسبب عجز قيادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية عن الانتقال تصاعديا بالشعب الفلسطيني، تلجأ السلطة إلى الهروب خارج الأرض المحتلة (1967) لتطرح هموما فلسطينية لا علاج لها إلا في الداخل الفلسطيني.
السلطة تهرب إلى الخارج لأنها ليست معنية وغير قادرة على وضع الحلول المناسبة للهموم الداخلية، وتحاول بذلك أن تقول للشعب إنها تجوب العالم وتنتقل من مطار إلى مطار باحثة عن تأييد وعن دول تضغط على إسرائيل عسى ذلك يأتي بحل للقضية. وفي كل مرة تعود السلطة خالية الوفاض وفاشلة. لقد ألهت الشعب على مدى سنتين بالسعي لدى الأمم المتحدة للحصول على مكانة دولة غير عضو وحصلت عليها، لكنها فشلت في ترجمة القرار في واقع الشعب الفلسطيني بحيث لم يشعر الفلسطيني أن أوضاعه قد تغيرت بسبب هذا القرار.
المؤسسات الدولية مؤسسات استعمارية
الدول الاستعمارية الكبرى -وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا- هي التي أقامت المؤسسات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، وهي موجودة لخدمة مصالح هذه الدول. لقد شاركت دول مثل روسيا والصين في صياغة أهداف وبرامج هذه المؤسسات، لكنها ليست هي المؤثرة كثيرا في الساحة الدولية، وعندما تتحدث الدول الاستعمارية عن المجتمع الدولي فإنها تقصد نفسها دون الآخرين، وتبقى روسيا والصين والهند خارج مفهوم المجتمع الدولي الذي تقصده.
ولهذا على العرب وبالأخص الفلسطينيين أن يكونوا حذرين في التعامل مع هذه المؤسسات. وليس القصد هنا رفض التعامل مع المؤسسات الدولية، بل يجب أن نبقى هناك في هذه المؤسسات، وعلينا كعرب ألا نتركها مرتعا لإسرائيل، لكن يجب ألا نعول عليها كثيرا، وهي بالتأكيد لن تحرر لنا فلسطين.
من المعروف أن الأمم المتحدة هي سبب كارثة فلسطين لأنها كانت مجرد أداة بيد بريطانيا وأميركا، وهي التي أقامت إسرائيل وشردت الشعب الفلسطيني. الأمم المتحدة صوتت جمعيتها العامة عام 1948 لصالح عودة اللاجئين الفلسطينيين، لكنها لم تفعل شيئا منذ ذلك الحين لإعادة اللاجئين إلى وطنهم. وهناك قرارات كثيرة صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح الفلسطينيين، لكن التنفيذ غائب ولا يوجد من يدفع باتجاهه.
وبما أن المؤسسات الدولية وليدة جهود الدول الاستعمارية -التي ما زالت حتى الآن ذات النفوذ الأكبر على الساحة الدولية- فإنها تشكل أدوات للاستعمار. وإذا كان لهذه المؤسسات أن تتخذ قرارات لا تصب في صالح هذه الدول فإن إمكانية التنفيذ ضئيلة جدا، وتعمل الدول الاستعمارية غالبا على التسويف والمماطلة والضغوط حتى لا يصدر قرار فيسبب لها فضائح وإحراجات، مثلما فعلت أميركا بالضغط على أعضاء مجلس الأمن حتى تتجنب استعمال النقض (الفيتو).
النشاط في المؤسسات الدولية مهم، لكن يجب ألا نقتصر عليه. وحتى يتمكن العرب من البناء على هذا النشاط عليهم أن يعملوا على مراكمة القوة لتكون لهم كلمة على الساحة الدولية. الساحة الدولية ملعب للأقويا، أما الضعفاء فلا حول لهم إلا التفرج إن سُمح لهم بذلك. والمشكلة أن العرب مصممون على ضعفهم ولا يبحثون عن القوة، ويفضلون البقاء حملا وديعا في غابة تسيطر عليها الذئاب.
أخطاء فلسطينية إستراتيجية
ذهب الفلسطينيون إلى الأمم المتحدة بأخطاء إستراتيجية كبيرة لا يمكن الحصول معها على ما يبتغون. وهنا أشير إلى النقاط التالية:
1- أسقطت السلطة الفلسطينية حق العودة على الرغم من أنه من الصعب على أية دولة -بما فيها الدول الاستعمارية- أن تجادل في هذا الحق، لأنها ورطت نفسها بمواثيق وعهود دولية تنص صراحة على عودة اللاجئ إلى وطنه. وقضية اللاجئين هي جوهر القضية الفلسطينية، وليست مسألة إقامة الدولة الفلسطينية، فإقامة الدولة تشكل الخطوة الثانية بعد العودة، وهي جزء من حق تقرير المصير المعترف به من قبل أغلب دول العالم.
جريمة السلطة الفلسطينية -ومن قبلها منظمة التحرير- أنهما تبحثان عن دولة فلسطينية بدون الشعب الفلسطيني، وهذا بحث غير مجدٍ ولا يمكن أن يؤدي إلى حل القضية الفلسطينية. والأولى أن يوجد الشعب الذي يريد إقامة دولة، والشعب الفلسطيني في أغلبه موجود في لبنان وسوريا والأردن، وإنه لمن العقم الفكري والسياسي أن نبحث عن دولة شعبها ليس ضمن حدودها.
تركت السلطة القضية الجوهرية التي يمكن أن تنشط بها على الساحات الشعبية الدولية لصالح فكرة الدولة ذات المنشأ الاستعماري الذي هدف إلى تمييع القضية الفلسطينية. لقد ضحت منظمة التحرير الفلسطينية -ومن بعدها السلطة الفلسطينية- بورقتين فلسطينيتين في غاية الأهمية، وهما: حق العودة ورفض الاعتراف بإسرائيل، مقابل أن يصبح الفلسطينيون خداما لأمن إسرائيل.
2- تخرج السلطة الفلسطينية إلى العالم والشعب الفلسطيني منقسم على نفسه وغير قادر على تحقيق وحدة وطنية، وتسود أوساطه المنابزات والمشاحنات والضغائن والأحقاد. الوضع الفلسطيني الداخلي لا يعطي انطباعا جيدا للعالم الخارجي، وعندما تدرك الدول هذا الأمر فإنها ستتردد كثيرا في الاستجابة للمطالب الفلسطينية.
وإذا أضفنا إلى هذا الأمر أن قيادتيْ السلطة والمنظمة غير شرعيتين فإن الشعب الفلسطيني يخسر احترام العالم. رئيس السلطة الفلسطينية غير شرعي لأن مدة انتدابه الشعبية انتهت عام 2009، وهو ما زال يتمسك بموقعه ويفرض نفسه فرضا على الشعب الفلسطيني.
أما قيادات منظمة التحرير فغير شرعية أيضا لأن كل مجالس المنظمة تخالف لوائحها الداخلية. إن فقدان الاحترام لا يجلب التعاطف والتضامن، بل ينتهي إلى الاستهزاء بالشعب الفلسطيني وقياداته، ولا يشجع الدول على تأييد فاشلين.
3- قيادة السلطة الفلسطينية مستبدة وطاغوتية، ولا تـُشرِك في اتخاذ القرار إلا قلة قليلة من الحاشية، أما الفصائل الفلسطينية وجمهور الناس فلا مجال أمامهم للمشاركة، وعليهم أن ينتظروا قرارات رئيس السلطة تنزل صواعق على رؤوسهم، فقرار الذهاب إلى الأمم المتحدة وقف عليه أربعة أشخاص من حوالي اثني عشر مليون فلسطيني. القيادة المستبدة قيادة فاشلة حكما وبالتعريف، وهي عاجزة عن حشد طاقات الناس وتصر على تغييبهم. وإذا كانت القيادة فاشلة داخليا فهي بالتأكيد فاشلة خارجيا.
4- ذهبت السلطة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة تعاند وتتحدى من يطعمونها ويقدمون لها رغيف الخبز، فعلى مدى أكثر من عشرين عاما لم تقم السلطة الفلسطينية بترتيب اقتصاد الضفة الغربية وغزة بطريقة تؤدي إلى تحرير الشعب الفلسطيني -ولو جزئيا- من استعباد إسرائيل وأميركا الغذائي، وفضلت أن تبقى عالة على الآخرين مادة يدها للتسول.
جدلياً، كيف يمكن للسلطة أن تنجح في تحديها لأرباب نعمتها؟ لقد اختارت ألا تقوم بعملية التنمية الاقتصادية وبرمجة الثقافة الاستهلاكية، وأبقت نفسها في دائرة الاستبداد الغذائي الغربي والإسرائيلي، وحاربت الذين ضغطوا من أجل البحث عن سبل الاعتماد على الذات.
مع هذه الأخطاء الإستراتيجية، كيف لمفاوض أو دبلوماسي أن ينجح؟ لقد جمعت السلطة الفلسطينية والمفاوضون بالنيابة عنها أسباب الفشل، وعملت باستمرار على إضعاف نفسها أمام إسرائيل وأمام العالم ككل؛ فهل جاء هذا بالصدفة أو لسوء الأقدار؟ طبعا لا.
السياسات الداخلية للسلطة الفلسطينية كانت وما زالت حريصة على إضعاف الناس وتمزيق المجتمع، وضرب المنظومة الأخلاقية، والانحطاط بالتعليم على مستوى المدارس ومستوى الجامعات، والإبقاء على الفقر والجهل. وما دام الحال هكذا، فإن أمام الشعب الفلسطيني مسؤوليات مزدوجة، وهي التحرر الداخلي من نير الاستبداد والظلم والقهر، والتحرر من الاحتلال الصهيوني.