الإحتلال مارس سياسة الإبعاد بحق قيادات ونشطاء الفصائل والعمل الوطني والمجتمعي الفلسطيني مباشرة بعد إحتلال عام 1967، ولم يتوقف عن ممارسة تلك السياسة، بل إستمر فيها في ظل عجز وعدم توفر إرادة دولية، تمنع الإحتلال من مثل تلك الممارسة والفعل المخالف للمادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة، بل هناك من وفّر الحماية والحصانة للإحتلال في المؤسسات الدولية من أمريكان وأوروبيين غربيين، مما جعله يتمادى في هذه السياسة والممارسة.
في البداية، وقبل مجيء وقيام السلطة الفلسطينية المنبثقة عن اتفاقية أوسلو الإنتقالية، كانت عمليات الإبعاد تتم إلى الأردن ولبنان وسوريا وغيرها من الدول الأخرى، ولكن الأردن ولبنان على وجه التخصيص، ومن بعد الإنتفاضة الأولى ضاعف الإحتلال وصعّد من عمليات الإبعاد لنشطاء وقادة الإنتفاضة والفصائل، ولتبلغ عمليات الإبعاد ذروتها بقيام حكومة الإحتلال في كانون أول 1992، كرد على العمليات العسكرية والإستشهادية التي نفذتها حركتي حماس والجهاد الإسلامي بإبعاد (418) من قادة ونشطاء حماس والجهاد إلى مرج الزهور في الجنوب اللبناني، هؤلاء المبعدين الذين لأول مرة تكون هناك إرادة دولية تلزم حكومة الإحتلال بإعادتهم إلى ديارهم، فكان القرار الأممي رقم (799) والذي بموجبه عاد المبعدين إلى وطنهم وديارهم، والبعض منهم عاد لسجون الإحتلال، ومن بعد ذلك خفت وتيرة عمليات الإبعاد، ولتأتي الإنتفاضة الثانية في أيلول 2000، وتجري عمليات الإبعاد بشكل واسع، حيث جرى في 10/5 من عام 2002، بعد ما يسمى بعملية "السور" أو "الدرع الواقي"، إبعاد (39) مقاوماً ممن تحصنوا في كنيسة المهد إلى غزة وعدة دول أوروبية، برعاية عدة دول أوروبية غربية، إبعاداً مؤقتاً لمدة ثلاث سنوات، ومنذ ذلك التاريخ لم يعد أحد منهم، حتى المناضل عبد الله داوود الذي إستشهد في المنفى، لم تسمح حكومة الإحتلال بعودة جثمانه ليدفن في مسقط رأسه.
ومع إشتداد الهجمة على القدس والمسجد الأقصى في أعقاب تشكل حكومة اليمين القومي والديني الإسرائيلي المتطرف بقيادة نتنياهو (2009)، أخذت عمليات الإبعاد منحى آخر بالتحديد ضد أهل القدس وأهالي الداخل الفلسطيني 1948، حيث تم إبعاد العشرات من المواطنين منهم عن المسجد الأقصى أو مدينة القدس لمدد مختلفة، وكذلك من كان يجري إعتقالهم على خلفية أنشطة وفعاليات انتفاضية، أو لها علاقة بالتصدي للمستوطنين ممن يقتحمون المسجد الأقصى، كان يجري إبعادهم عن القدس لمدد مختلفة أيضاً، في سياسة ممنهجة وواضحة، تستهدف كسر إرادة المقدسيين، وتحطيم معنوياتهم، ودفعهم إلى حالة من الإحباط واليأس وفقدان الثقة، وتطويعهم وإخراجهم من دائرة الفعل الوطني والكفاحي.
وعمليات الإبعاد لم تطال فقط من هم خارج سجون الإحتلال ومعتقلاته، بل هي كذلك طالت أسرانا في سجون الإحتلال، فعدد من الأسرى ممن قاموا بالإضراب على خلفية الإحتجاج على إعتقالهم الإداري المناف لكل القوانين والأعراف والمواثيق والإتفاقيات الدولية، جرى إبعادهم إلى قطاع غزة.
وكذلك صفقة الوفاء للأحرار في تشرين أول 2011، حيث جرى إبعاد (40) % من الأسرى الذين تحرروا في الصفقة إلى قطاع غزة وعدة دول عربية وأوروبية، وقد رعت تلك الصفقة بشكل أساسي الحكومة المصرية، وكما هو الحال فيما جرى في قضية مبعدي كنيسة المهد الـ(39)، فإن عمليات الإبعاد لغالبية هؤلاء الأسرى كانت مسقوفة زمنياً، ومن أنهى منهم مدة إبعاده لم تلتزم "إسرائيل" بإعادته إلى مسقط رأسه، ضاربة بعرض الحائط كل القوانين والإتفاقيات والمواثيق الدولية، حيث الإنحياز الأعمى من قبل أمريكا ودول الغرب الإستعماري الغربي لصالح "إسرائيل"، وتعطيلهم لأي إرادة سياسة للمجتمع الدولي، من شأنها منع "إسرائيل" من خرقها السافر والفاضح للقانون الدولي.
تلك السياسة تصاعدت بشكل مجنون بحق القدس والمقدسيين، حيث جرى إبعاد نواب القدس المنتخبين (محمد أبو طير، محمد طوطح وأحمد عطون) ووزير شؤون القدس السابق خالد أبو عرفة عن مدينة القدس، وسحب هوياتهم المقدسية، رغم أنهم نواب منتخبين بشكل شرعي عن دائرة القدس، في الإنتخابات التشريعية الفلسطينية التي جرت في 26/1/2006، بموافقة أمريكية وإسرائيلية.
بعد إبعاد نواب القدس المنتخبين ووزير شؤونها السابق، الإحتلال صعّد من حربه تجاه القدس والمقدسيين والمسجد الأقصى بشكل لافت، حيث كان يعتقد بأن حالة الضعف والإنقسام الفلسطيني، وكذلك حالة الإنهيار العربي ودخول الحالة العربية في صراعات مذهبية وطائفية وأثنية، وكذلك تعطل الإرادة الدولية وعجزها عن فرض حل سياسي على حكومة الإحتلال، توفر له الفرصة من أجل إبتلاع القدس والسيطرة على المسجد الأقصى، حيث أصبحت عمليات الإبعاد تجري بالجملة عن الأقصى والقدس للمقدسيين، ولتكن جريمة حرق الشهيد الفتى أبو خضير حياً، نقطة تحول في المشهد المقدسي، حيث ثبت للإحتلال بأن الحالة المقدسية بكل مكوناتها ومركباتها عصية على الكسر، فقد دخلت القدس في حلقة متواصلة من الهبات الجماهيرية المتلاحقة، أفقدت الإحتلال صوابه، ودخل في حالة من التخبط والإرباك وفقدان السيطرة على الوضع في المدينة، تحديداً بعد عملية الشهيدين غسان وعدي أبو جمل، وليقوم "الكابينت الأمني الإسرائيلي" في 20/11/2014، بإتخاذ سلسلة من الإجراءات والقوانين والقرارات التي من شأنها حسب إعتقاده تمكنهم من إستعادة زمام الأمور والسيطرة على القدس، من ضمنها سياسة العقاب الجماعي، والطرد والتهجير لعائلات الشهداء والنشطاء و"المحرضين" كما تدعى حكومة الإحتلال واجهزتها الأمنية، وبالفعل نقلت حكومة الإحتلال هذا القرار إلى حيز التنفيذ، حيث أصدرت أول أمس قراراً يقضي بإبعاد خمسة من النشطاء المقدسيين، بينهم ثلاثة أسرى محررين، هم: داود الغول ومجد درويش وصالح درباس عن مدينة القدس لمدة خمسة شهور، يسري مفعولها من 30/11/2014، في سياسة واضح من خلالها تنفيذ سياسة الطرد والتهجير القسري والتطهير العرقي بحق المقدسيين، تلك السياسة التي ندرك بأنها ستتواصل وتتوسع، في ضوء الحرب التي شنها ويشنها الإحتلال على القدس والأقصى، وتصدي ومقاومة المقدسيين لتلك السياسة العنصرية والمتعدية بشكل سافر على البند (49) من اتفاقية جنيف الرابعة، وهذا التعدي يتطلب تحرك جدي وعاجل من قبل القيادة الفلسطينية (منظمة تحرير وسلطة)، بالدعوة إلى جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي لبحث ما تقوم به "إسرائيل" وما ترتكبه من جرائم حرب بحق المقدسيين، عقوبات جماعية، هدم منازل اهالي الشهداء الإبعاد والطرد والتهجير وغيرها، وكذلك التصديق على ميثاق روما والإسراع في الإنضمام إلى محكمة الجنايات الدولية، وكذلك دعوة مجلس حقوق الإنسان إلى الإنعقاد، واتخاذ إجراءات عقابية بحق "إسرائيل" على مثل تلك الممارسات والجرائم العنصرية، وأيضاً يجب أن يكون هناك تحركات فلسطينية وعربية ومقدسية، من أجل مواجهة هذه السياسة الإجرامية، المستهدفة تفريغ المدينة من نخبها السياسية والوطنية والدينية والمجتمعية وغيرها.