المخيمات الفلسطينية في الوطن والشتات شاهد حيّ ومتواصل على النكبة الفلسطينية الكبرى، التي أسفرت -فيما أسفرت عنه- عن تهجير أكثر من 850 ألف فلسطيني من الجليل والساحل والنقب وغيرها من المناطق المغتصبة سنة 1948م. إلا أن للمخيمات وجها آخر غير هذا الوجه المأساوي، وشخصية اجتماعية
وتركيبة نفسية تجعل من المخيمات محل دراسة، وذلك إلى أن تنتهي المأساة أو النكبة بالعودة إلى الديار.
فعند دراسة الاجتماعيات يقسم المجتمع العربي عادة إلى سكان المدن والأرياف والبوادي-إن وجدت- وتعطى صفات عامة لكل مجتمع وفق هذا التصنيف؛ أما المخيمات فهي مجتمعات طارئة سببتها النكبة، ولكن وجودها قد طال عليه الأمد حتى وصل إلى الآن 66 سنة مات فيها من مات وولد فيها من ولد. إضافة إلى الجانب الذي يركز عليه من يكتبون ويتحدثون عن المخيمات وهو جانب المأساة والنكبة، والدور الوطني والنضالي، والأبعاد الاقتصادية للنكبة ورمزية المخيمات، هناك جانب بنية وشخصية مجتمع المخيم، مع مراعاة أن لكل مخيم في الداخل أو الخارج ظروفه وخصوصيته.
فالمخيم ليس مدينة، ولكنه ليس قرية أيضا، وأغلب المخيمات ملاصقة للمدن، واكتسبت بناء على ذلك عادات من المدن، إضافة إلى عادات من الريف، كون أغلب من يقيمون في المخيمات من أصول قروية، وبحكم المصاهرة مع القرى.
لو أخذنا مخيم جنين حيث عشت ما بين 1977-2003م وحيث ما زالت والدتي-وهي أصلا ابنة إحدى قرى جنين- تقيم، فإننا نجد أن سكان المخيم قدموا من حوالي 57 قرية ومدينة خاصة من مناطق حيفا وبيسان ومرج ابن عامر والجليل والخضيرة، أي أن طباع وصفات وميزات هذه المناطق قد امتزجت ببعضها البعض، يضاف إليها ما اكتسب بفعل الخلطة والمصاهرات المستمرة مع أهالي المنطقة الأصليين، ولذا تجد في المخيم أكثر من لهجة دارجة، وترى تنوعا في أجسام الناس وألوانهم؛ فتجد الأشقر والأبيض والأسود والقمحي.
إن هذا المزيج الإنساني وإن كان ناتجا عن نكبة كوّن للمخيمات شخصية فيها الشدة والقسوة مع الحنان والرحمة، وفيها دهاء وبساطة، وطيبة وحذر، وتدين وقلة تدين... إلخ، وهي كما نعلم صفات سكان المدن، ولكن المخيم ليس مدينة كما نعلم، وذلك بحكم طبيعة البيوت ونظام الحياة، ولكنه ليس قرية أيضا، لأن أهالي المخيم ليس لهم أراض ومزارع، وإن كان بعضهم قد يعمل في الزراعة بأرض ضمنها أو اشتراها بعد سنين غربة أو كد وجهد.
وعمال وحرفيو المخيم يمتازون بالمهارة بشهادة كثير من الناس، لذلك ربما أجرتهم مرتفعة مما يدفع حتى سكان المخيم نفسه إلى استئجار عمال من القرى، أما التعليم في المخيم فهو من الصف الأول إلى التاسع الأساسي في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) وقد حظي أبناء وبنات المخيم بنوعيات جيدة من المدرسين، وامتازت رواتبهم بأنها مرتفعة عن نظرائهم في التعليم الحكومي لسنوات طويلة، لدرجة أن بعض سكان المدينة ممن يحملون بطاقات لاجئين كانوا يرسلون أولادهم للدراسة في مدارس الوكالة في المخيم، ولكن في السنوات الأخيرة، تراجع نسبيا مستوى التعليم في مدارس الوكالة، ولم تعد رواتب المعلمين مغرية كما السابق، وبحكم تحسن ظروف بعض السكان ماليا أخذوا يرسلون أبناءهم وبناتهم إلى مدارس حكومية أو خاصة. وبعد أن ينهي الطالب أو الطالبة الصف التاسع الأساسي يدرس في المدارس الحكومية، حيث يختلط بأقرانه من المدينة وبعض القرى، فيبني علاقات وصداقات جديدة، أو خصومات وعداوات، حسب الشخص وظرفه.
الحديث عن شخصية المخيم له تفصيلات كثيرة وطويلة، ولكن للمخيم سمتا خاصا، وللحياة فيه نكهة مختلفة عن غيره، فتجد ما يغيظ ويغضب ويشعر المرء بمشاعر سلبية حانقة، وفي ذات الوقت تجد في المخيم ما يسر ويريح النفس والقلب، والأهم من كل ذلك أن هذه الشخصية الخاصة بالمخيم جعلت أغلب التنظيمات والفصائل الفلسطينية تحرص على بناء قواعد لها في المخيمات، ولأسباب ذلك وملابساته ونتائجه حديث في مقال آخر بمشيئة الله تعالى.