كانت لي علاقة ودّ ومحبة وصداقة لمدة عامين متتاليين مع الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي. كانت النقطة المركزية لأي حوار نهاري أو مسائي في المنزل أو في السيارة هي القضية الفلسطينية وأهمية استنهاض الأمة في سبيل تحرير فلسطين من براثن الاحتلال، كيف لا وهو المهتم دائمً بتوجيه السؤال اليومي: ماذا قرأت اليوم؟
ماذا سمعت من أخبار عن فلسطين وانتفاضتها؟ إن الخبر الذي سمعته اليوم عند الساعة الثانية فجراً لم يكن معلومات دقيقة. وهكذا تمرّ الساعات والأيام: لقاءات ومواعيد ومثابرة على سماع الأخبار ساعة بساعة. وفجأة، يعرض عليك دراسة أو بحثاً ويقول هذا ما كتبته وأريد رأيك فيه. لقد كان الدكتور فتحي او عز الدين «أبو ابراهيم» يبدي حرصا شديدا على مناقشة أي دراسة أو مقالة أو مجلة حتى ولو استشارة تأتيه من بعيد.
في بيروت عاصمة الثقافة والكتاب أقيم في نهاية العام 1990 معرض الكتاب السنوي، وكان الدكتور فتحي ينتظره بفارغ الصبر. وثاني يوم الافتتاح طلب مني الحضور عند الساعة الثالثة بعد الظهر لمرافقته إلى المعرض. وبالفعل توجهت إلى منطقة الطريق الجديدة حيث أقام لفترة قصيرة، وعند جسر الكولا توقفت سيارتي من دون سابق إنذار وحاولت جاهدا إصلاحها واستعنت بميكانيكي فلم يفلح، وتأخرت عن الموعد المحدد حوالى الساعة، ثم قررت ترك السيارة حيث هي واستعنت بدراجة نارية لأصل إليه فوجدته منتظراً قدومي، وكان السؤال مكرراً «وين كنت يا رجّال» فشرحت باختصار ما حدث. فقال حسنا هيا بنا إلى المعرض. فقلت له كيف نذهب وليس معي سيارة؟ فقال: على الدراجة النارية. وهذا ما حصل. أما المشكلة فكانت في أثناء العودة محملين بعدد من الكتب لا تقل عن عشرة.
في الليلة الأولى من أيام المبعدين الفلسطينيين إلى مرج الزهور أصرّ الدكتور فتحي على التوجه إلى مرج الزهور حتى ولو سيراً على الأقدام. وباءت جميع المحاولات في سبيل إقناعه بتأجيل الزيارة إلى اليوم التالي، بالفشل، وكان ما أراده وتوجه إلى مرج الزهور على الرغم من بعض العوائق الميدانية، ووصل إلى هناك وعانق الأخوة المبعدين وصافحهم فردا فردا واطمأن إلى صحتهم.
لقد كانت الأيام السبعمائة وأكثر، حافلة بالعبر والعبرات، العبرات على فقد الشهداء، والعبر للتزود والاستمرار في نهج المقاومة والجهاد، وما محطة فندق (الدبلوماسي) بحي سليمة بجزيرة مالطا عند الساعة الواحدة من ظهر يوم الخميس في 26-10-1995 الا المحطة الأخيرة من المحطات الجهادية في الحياة الدنيا للدكتور فتحي، حين كان عائداً من ليبيا إلى دمشق بعد إجرائه حواراً مع القيادة الليبية بشأن قضية عودة الفلسطينيين الذين طردتهم ليبيا باتجاه الحدود المصرية، ولتبدأ بعدها رحلة غربة الجسد الشاهد من مالطا بعد رفض عبور الجثمان حتى لأجواء بعض البلاد العربية، وصولاً لتدخل الرئيس الراحل حافظ الأسد، وينقل الشهيد فتحي الشقاقي بعدها إلى دمشق ليوارى في الثرى في روضة شهداء فلسطين.