لا تزال غالبية الشرائح الاجتماعية تتعامل مع الاعلام المعاصر من موقع المتلقي فقط دون فاعلية مؤثرة من قبله وذلك بحكم اعتبارات كثيرة تعود في أصولها الى قصور في الوعي الجماهيري العام لمفهوم المشاركة المجتمعية من جهة ولمفهومية الأنا والآخر من جهة أخرى
, كما تعود الى طبيعة خضوع المجتمعات العربية بغالبيتها الى أنظمة سلطوية شديدة في قمعها تعتمد على دور السلطان أو القائد الرمز كحام لها وعبقري فذ وقوي بشخصه وسيوفه وأسلحة جماعته وعشيرته.
مع دخول وسائل الاتصال الجماهيري, ولا سيما الصحف والاذاعة ومن ثم التلفزيون هيمنت السلطات الحاكمة على غالبيتها بقصد نقل تعليماتها ووجهات نظرها بالأحداث, مترافقا مع محاولات تسليتها ببرامج ومسلسلات فكاهية (كوميدية) أو مأساوية (درامية) الهاء للجماهير المستقبلة عن التفكير في قضايا تمس الحاكم ومنعا لتفرغها لأفكار أنضج, قد تصل بها الى ابداعات تفوق مخيلة الحاكم وتتجاوزه.
مع التوسع في بث وسائل الاتصال, وانشاء قنوات فضائية تعلن استقلاليتها عن سيطرة الدول التي أسستها وتمتعها بالحرية ومحاولة اتباعها اسلوب وطريقة القنوات الفضائية العالمية (سي ان ان, وسكاي نيوز, وغيرهما) استطاعت تحقيق اقبال جماهيري كبير, يعود في غالبيته الى رغبة المشاهد العربي التخلص من الاعلام الحكومي الرتيب والموصوف بالخشبي, لكن الكثير من الملاحظات يمكن تسجيلها على طريق عرض الاحداث ومناقشتها سواء من حيث ترتيبها لأولويات الاخبار أو انتقاءاتها لأحداث معينة او في استضافتها لكتاب ومحللين من تيارات مختلفة.
قد يتطلب سرد الملاحظات وشرحها مساحة لا يستطيع مقال صحفي استيعابها, لكن الأمر الذي يلفت النظر بحدته هو في تقديم ضيوف يعرفون على انهم كتاب ومحللون, لكن الواقع يدل على انهم لا ينتمون الى مدارس التحليل العلمي بأي صلة وانما يظهرون انتماءهم الى تيارهم بالدفاع عن وجهة نظرهم فيتحول الى ناطق باسم تياره, وهو ما كان يمكن نقله عن المسؤول مباشرة أو تقديمه كناطق باسم الجهة التي يدافع عنها وليس كمحلل او كاتب.
ان المحلل هو من يعرض القضية عرضا صادقا وواضحا في اطار الشفافية التي كثر استخدامها نظريا, ويقوم بعد ذلك بالتحليل وفق اساليب التحليل العلمي والمعطيات الجارية على الحدث المدروس من جوانبه المختلفة ووفق المعايير المتعارف عليها.
المؤسف ان مثل هذا الامر قد يكون غير متوفر بشكل يؤمن متطلبات عمل الفضائيات العربية التي تطمح الى حرية ارسالها, بحكم انتماء غالبية المثقفين العرب الى مدارس تؤكد ترسيخ مفهوم الانتماء الى تيار بعينه بعدي عن ترسيخ مفهوم المنطق التحليلي العلمي, والبعض يعيد ذلك الى نظرية الأواني المستطرقة التي تحكم الحالة العربية والتي تضع جميع القضايا على مستوى واحد لا يجوز تجاوزه لانه المنسوب الذي وضعته السلطات الحاكمة والمهيمنة لابقاء الوعي العام محدودا والتفكير المنطقي معدوما. ان استمرار الفضائيات العربية ووسائل الاعلام الاخرى على هذا الحال الذي ذكرته, سيزيد من حالة نقص الوعي المعرفي العلمي وسيساعد على مزيد من السطحية والتشرذم والخلافات التعصبية الهدامة. في حين ان المطلوب والمأمول هو في المساهمة في المساعدة بالنقلة التربوية والعلمية في نشر الوعي العلمي والقبول بنتائج التحليل العلمي الحر سواء كان مؤيدا لتوجهات المتلقي او صاحب الوسيلة الاعلامية او مخالفا له.
ان الرسالة الاعلامية هي توجه بمادتها الى وعي المتلقي, بحيث لا تكتسب سيرورتها الا عنده لتحديد مركز الاهتمام بفعل القراءة للصحف او السماع للاذاعة والمشاهدة للتلفزيون.
ان علاقة الوسيلة الاعلامية مرتبطة بالمتلقي في تفاعلها وتأثيراتها, الأمر الذي يقتضي مزيدا من التعمق في طرق المشاركة في اطار وعي عام لجمهور المتلقين بتعمق وانفتاح مأمول ضمن اجواء الحراك العربي القائم بأهدافه المعلنة من قبل شبابه والمتمركزة على نيل الحرية وكسر حاجز الخوف والديكتاتورية وتعميق الحياة الديمقراطية, مع مزيد من الشفافية التي تعني المصداقية.