لا مكان في العالم تترابط فيه السياسة والاقتصاد، كحال المنطقة العربية والإسلامية، حيث النمو، أو بالاحرى الضمور الاقتصادي، هو نتيجة لتراكمات سياسية وإفرازاتها الاجتماعية اللاحقة.
إن العديد من الباحثين والمفكرين الاقتصاديين حاولوا اكتشاف القاعدة السحرية التي تجعل بعض الدول تزدهر، بينما يعاني غيرها العوز. روبرت بارو من جامعة هارفرد كان رائداً في مجال دراسة أهمية العامل الإنساني وإنتاجيته كأساس للنمو الاقتصادي، وانطلق من مبدأ الأهمية المباشرة لقطاع التعليم والقدرة على التعبير (بالمعنى الاقتصادي) التي تجعل الإنسان يحقق طموحاته ويعيش قدراته، ما يسمح للاقتصاد أن ينمو بطريقة عضوية متكاملة. بالإضافة إلى هذا العنصر الأساسي، يبرز وضع الأسس الاقتصادية السليمة لملاقاة العامل الإنساني، وأهمها التكامل الجغرافي للأسواق، والاستخدام الرشيد للمواد الأولية لتحفيز الإنتاج.
إذا نظرنا إلى عالمنا العربي والإسلامي من هذا المنظار فماذا نرى؟ أعداد كبيرة قادرة على الإنتاج، ولكنها محرومة بالإجمال من القدرة على تحقيق الذات، وسياسات تعليمية ضعيفة معطوفة على صعوبة إيجاد فرص العمل المناسبة التي دونها عراقيل عدة، وأسواق بينية مقفلة نتيجة للخلافات السياسية. فواقعنا يدل على ضعف شديد يحول بيننا وبين النمو الاقتصادي الحقيقي الممكن.
لم تستطع السياسات العربية ان تجاري التقدم العلمي، أو تعطي أية أهمية للطاقة البشرية، بالرغم من وجود موارد كافية، أعطت العديد من بلدان المنطقة قدرة اقتصادية هائلة وإمكانات للتطوير الداخلي والإقليمي. إن استمرار الاعتماد على هذه الموارد فقط، أضعف بناء قدرات هذه البلاد الاقتصادية على المدى الطويل. فاعتماد دول الخليج على النفط الخام بدرجة اساسية، أفقدها الكثير من ناحية تنويع مصادر الدخل وخلق صناعات جديدة وتطوير قدرات بشرية وخبراتية محلية. وهذا ما تم التنبه إليه في السعودية لاحقاً، حيث تمت إقامة العديد من المناطق الصناعية، فيما قامت دبي بإنشاء اقتصاد يعتمد على الخدمات والسياحة، ولو بالدين.
المشكل الحقيقي الناتج عن هذا التأخير كان ظهور ثلاث طبقات: طبقة الخبراء وهي بمجملها أجنبية متعلمة وذات خبرة طويلة في مجالاتها؛ طبقة ثانية من أهل البلاد التي تحاول أن تتعلم وتكتسب الخبرات القيادية من الطبقة الاولى؛ والطبقة الثالثة من اليد العاملة الرخيصة، وهي أيضاً أجنبية لبعد اهتمام اهل البلاد من القيام مقامها. وهذا أنتج الكثير من اليد العاملة الوطنية غير القادرة على إيجاد موطئ قدم صحيح لها في سوق العمل، فنسبة البطالة في السعودية مثلا ارتفعت إلى 12,1 في المئة نهاية 2012 حسب أرقام صندوق النقد الدولي، مع ان أكثر من 65 في المئة من اليد العاملة السعودية تعمل بالقطاع العام. وهنا تبرز أهمية دعوة هذا الصندوق إلى إعادة النظر بالسياسات العامة في المملكة، ومنها التعليمية، لمساعدة الجيل الجديد على الدخول السليم إلى عالم الإنتاج.
العديد من الأبحاث الاقتصادية ترى لمصر مستقبلاً مشرقاً جداً لأسباب كثيرة، أهمها اقتصادها المنفتح في منطقة جغرافية مؤثرة سياسياً، حيث أن الموقع الإستراتيجي بين القارات، ووجود طبقة متعلمة وقادرة على الإنتاج الفكري المتقدم، وأهمية اليد العاملة الرخيصة نسبياً تجعل مصر مكتفية من ناحية وجود العامل الإنساني للتطوير والنمو. ما ينقص هو قدرة الطبقة السياسية على تجاوز المشكلات المعقدة التي ما فتئت تعصف بمصر كنتيجة للسياسات العامة وإفرازاتها غير الطبيعية منذ سنوات طويلة. أما العمق الجغرافي المصري فهو حاجة اقتصادية إستراتيجية: إن المشرق العربي كان دوماً أساس نهضة ونمو القدرة السياسية والمالية المصرية عبر التاريخ؛ ومن هنا تبرز أهمية التكامل الاقتصادي السليم بين مصر وبلاد المشرق العربي لمصلحة الجميع. فحالياً (وبالرغم من المشاكل الصعبة في لبنان وسوريا) هناك طاقة كامنة كبيرة لدول المشرق كالعراق، الذي يتوقع له مركز CEBR الإنكليزي نمواً كبيراً في السنوات القادمة، مع انه ما زال يحاول أن يتخلص من مشاكل السياسة والحروب المتتالية لإيجاد نواة اقتصاد مناطقي مزدهر. فالعراق كان دائماً مصدراً للكفاءات العلمية والقدرات البشرية المتطورة، وهذا ما يساعد على استغلال الموارد النفطية لوضع خطط اقتصادية طويلة الأمد تتكامل. حتى أن «الدايلي تلغراف» الانكليزية بدت في عدد حديث لها كأنها تروج (او تلوح تهديداً) لفكرة حلف عراقي - إيراني في مجال الطاقة يؤدي الى تكامل نفطي (يترجم سياسياً واقتصادياً لاحقاً). ومن الإشارات المهمة أيضاً أن إيران تبني اقتصاداً ذاتي القدرة، يعتمد على المعرفة والإنتاج المحلي لمقارعة عقوبات شديدة الوطأة جعلت وضعها العالمي يتأرجح بين من يرى انها ستستطيع الاستمرار بالنمو بالرغم من العقوبات لتكون احد اكبر اقتصاديات المنطقة (تقرير HSBC 2050) وبين من يتكهن العكس لأسباب سياسية.
إن نهضة عالمنا ومنطقتنا يتطلب تعاوناً وتكاملاً لنستطيع ان نبني ونستمر على اسس اقتصادية سليمة. فمداميك النمو الاقتصادي موجودة لدينا من: 1) طاقات بشرية هائلة بعضها متعلم وذو خبرة، وبعضها الآخر يعتبر يداً عاملة محدودة الكلفة؛ ونحن نحتاج للإثنين، و2) مواد أولية وموارد نفطية تؤمن الحاجات وتفيض من ناحية التدفقات المالية التي يمكن استثمارها لمزيد من العائدات وفرص العمل للطاقات البشرية لجذبها إلى أسواق الانتاج بدلاً من ساحات البطالة (وتالياً الضياع الفكري والاقتتال). من الضروري إعادة هيكلة سياساتنا لجعلها رافعة للاقتصاد المجدي والتركيز على أهمية طاقاتنا البشرية كما تفعل كل الأمم المتقدمة. إن قمة التراجيديا أن يحاول كيان العدو الإسرائيلي هذه الأيام فك عزلته الاقتصادية وتوسيع رقعة أسواقه التجارية بطلب الانضمام لحلف «الباسيفيك الاقتصادي» البعيد آلاف الكيلومترات (بعد ان نجح تماما بتطبيق سياسة الطاقة البشرية المحفزة للنمو)، بينما عالمنا العربي والاسلامي القادر على التواصل جغرافياً وإنسانياً لخلق سوق إنتاجية واستهلاكية جبارة، ما زال يعيش ترسبات سياسات ادت بنا الى التقوقع خلف جدار افكار لا تؤدي الا الى ضياعنا جميعاً.