Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

القـدس تنـاديكم..!!.. هاني المصري

القـدس تنـاديكم..!!.. هاني المصري

  منذ عدة أشهر، تعيش مدينة القدس المحتلة حالة انتفاضيّة ما تكاد أن تخبو حتى تشتعل من جديد على خلفيّة الرد على استمرار وتصاعد الاعتداءات الإسرائيليّة ضد أهالي القدس بشكل عام، وضد الأقصى بشكل خاص.

 

يكفي الإطلاع على مسلسل الاعتداءات خلال الشهر الماضي لتبيان ما تعانيه القدس من جهة، والصمود والتصدي والمقاومة التي تقوم بها من جهة أخرى، التي بلغت ذروتها بمحاولة اغتيال الصهيونى المتطرف يهودا غليك، إذ أصيب إصابات خطيرة، واستشهاد منفذ العمليّة معتز حجازي في عمليّة إعدام نُفّذت بدم بارد.

خلال شهر تشرين الأول الماضي شهدت القدس ارتقاء الشهيدين عبد الرحمن الشلودي ومعتز حجازي، وأغلقت قوات الاحتلال الإسرائيليّة لأول مرة في تاريخ فلسطين أبواب المسجد الأقصى ومنعت رفع الأذان فيه. كما اقتحم الأقصى 1355 متطرفًا صهيونيًا منهم رئيس بلديّة القدس "نير بركات" على مدار الأسبوع، إضافة إلى اعتقال أعداد كبيرة من المقدسيين، وإصدار قرارات بإبعاد بعضهم، وهدم المنازل بإجبار أصحابها على القيام بذلك بحجة عدم الترخيص، أو قيام الاحتلال بعمليات الهدم، وفرض غرامات باهظة ومنع تشغيل المقدسيين، والإعلان عن بناء آلاف الوحدات الاستيطانيّة في كل من "جفعات هاماتوس" و"رمات شلومو" و"جبل أبو غنيم".  

تتواصل المظاهرات والاحتجاجات في مختلف أنحاء القدس، خصوصًا دفاعًا عن المسجد الأقصى، لدرجة دفعت الكثير من الكتّاب والمعلّقين والسياسيين الإسرائيليين إلى اعتبار أن القدس تشهد انتفاضة يمكن أن تنتقل إلى بقيّة أنحاء الضفة وفلسطينيي 48، وأنها خرجت عن السيطرة الإسرائيليّة، وطالبوا الحكومة باتخاذ إجراءات أشد لإعادة سيطرتها.

أثناء تشييع الشهيد حجازي تردد هتاف من المشيعين "يا ضفة يلّا منشان الله"، وهو هتاف مؤلم سمعناه يتردد بأشكال أخرى في بداية العدوان الأخير على قطاع غزة، وسمعنا مثله يتردد أثناء الهبّات التي انطلقت مرارًا تضامنًا ونصرة للأسرى، خصوصًا أثناء إضراباتهم الأسطوريّة عن الطعام، وأثناء المواجهات المستمرة منذ أعوام في بلعين ونعلين والنبي صالح والمعصرة وكفر قدوم وواد فوكين وبيت أمر وغيرها من القرى التي التهم جدار الفصل العنصري والاستيطان معظم أراضيها.

ما سبق يظهر أن هناك مواجهات ومقاومة بطوليّة تبلغ حد الانتفاضة مثلما يجري في القدس، من دون أن تمتد المواجهات والمقاومة والانتفاضة إلى المناطق الأخرى.

في السابق كان يكفي قتل أربعة عمال في غزة لتكون الشرارة التي أشعلت السهل كله، وكانت الانتفاضة المجيدة التي اندلعت في 9 كانون الأول 1987، واستمرت عدة سنوات، ووضعت فلسطين على خارطة العالم، ولولا توقيع "اتفاق أوسلو" الذي فصل الأرض عن الشعب والقضيّة، وقسم كل منها إلى أجزاء، وهمّش منظمة التحرير الإطار الجامع للفلسطينيين، واعترف فيه الفلسطينيون من جانب بواحد بـ"إسرائيل"، وتخلّوا عن المقاومة وأدانوها من دون أن تتخلى "إسرائيل" عن مخططاتها وتوسعاتها العنصريّة الاستيطانيّة، ولولا انهيار التضامن العربي بعد احتلال العراق للكويت، وانهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكيّة؛ لاستطاعت الانتفاضة تحقيق هدفها بدحر الاحتلال وإنجاز الحريّة والاستقلال من خلال تجسيد الدولة التي أُعْلِن عن قيامها في 15-11-1988 كأحد إنجازات الانتفاضة.

وفي 28 أيلول 2000، كانت تكفي الزيارة الاستفزازيّة للأقصى التي قام بها أرئيل شارون لاندلاع انتفاضة عارمة كان يمكن أن تحقق الحلم الفلسطيني لو رافقها إعلان موت "اتفاق أوسلو"، واعتماد مقاربة جديدة تستلهم تجارب ونضالات الشعب الفلسطيني منذ الغزوة الصهيونيّة الأولى وحتى تاريخه. لكن اختُلِفَ حول جدوى الانتفاضة وحول أن تكون سلميّة أو مسلحة، ونُظِر إليها على أساس تكتيكي ووسيلة لتحسين شروط المفاوضات التي انهارت في مؤتمر "كامب ديفيد"، على خلفيّة طرح حل تصفوي للقضيّة الفلسطينيّة لا يمكن أن يقبله الرئيس الراحل أبو عمار ولا أي زعيم وطني فلسطيني. وارتقى ياسر عرفات شهيدًا  في 11-11-2004 لقيادته للانتفاضة ولرفضه للحلول الاستسلاميّة.

اليوم يرتقي الشهداء بالجملة والمفرق في الضفة وغزة، لدرجة تقديم أكثر من 2200 شهيد وأضعافهم من الجرحى غير الخسائر الأخرى في العدوان الأخير على غزة، إضافة إلى تعرّض الأقصى لاعتداءات يوميّة وسط دعوات شُرِع في تنفيذها لتقسيمه زمانيًا ومكانيًا تمهيدًا لهدمه وبناء "هيكل سليمان الثالث" المزعوم على أنقاضه، ومع ذلك لم تندلع الانتفاضة التي طال انتظارها.. لماذا؟

 

لا يتسع هذا المقال للإجابة الموسعة عن هذا السؤال، ولكن يمكن تلخيصها بالأسباب الآتية:

أولًا. عدم وجود قيادة للانتفاضة، فالرئيس أبو مازن أعلن - مرارًا وتكرارًا - معارضته لاندلاع انتفاضة جديدة، وعبّر هذا الموقف عن نفسه من خلال منع العديد من المظاهرات وأي شكل من أشكال الاحتكاك بين قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين في مناطق سيطرة السلطة، ودعا مؤخرًا إلى التهدئة في القدس التي تشهد تصعيدًا إسرائيليًا غير مسبوق. ولعل هذا الأمر يفسّر لماذا تشهد المناطق غير الخاضعة للسلطة مثل القدس مواجهات أقوى وأعمق من غيرها.

ثانيًا. لعب الانقسام دورًا أساسيًا فى عدم اندلاع انتفاضة جديدة، كما لعب تعدد القيادات والمرجعيات والإستراتيجيات دورًا مهمًا في الحؤول دون تحقيق الانتفاضات السابقة أهدافها، إضافة إلى أن الخلاف حول أهداف الانتفاضة وأشكال النضال المناسبة (سلميّة أو مسلحة) يلعب دورًا في تأخير اندلاع الانتفاضة.

ثالثًا. عدم تحقيق الانتفاضات السابقة لأهدافها برغم البطولات الأسطوريّة والتضحيات الغالية، وانتهاؤها إلى حالة من الفوضى والفلتان الأمني؛ يجعل الشعب يخشى من الانتفاضة وغير واثق من انتصارها، فالانتفاضات الكبرى يحركها الأمل والثقة بالانتصار أكثر ما يحركها اليأس والإحباط، وإذا أضفنا إلى ما سبق نشوء طبقة ما بعد أوسلو التي ازدادت نفوذاً وثروة، أصبح من مصلحتها عدم اندلاع الانتفاضة وعدم انتصارها إذا اندلعت، ووقوع ثمار "السلم والحرب" في بطنها يجعل الشعب يفكر أكثر من مرة قبل الانتفاض مجددًا، إلا إذا جاءت الانتفاضة ردة فعل على تصعيد عدواني لا يتحمله الإنسان الفلسطيني كما يجري حاليًا في القدس.

رابعًا. إن التغييرات العاصفة التي تشهدها المنطقة وما انتهت إليه من حروب داخليّة وطائفيّة ومذهبيّة تهدد في تفتيت، وحتى تقسيم، عدة بلدان عربيّة؛ تلعب دورًا في عدم إقدام الشعب الفلسطيني على الانتفاضة، لأنه يدرك أهميّة البعد العربي والإقليمي والدولي للقضيّة الفلسطينيّة ولمناصرة كفاح الشعب الفلسطيني لتحقيق أهدافه في تقرير المصير والعودة والاستقلال.

طبعًا، هناك أسباب وعوامل أخرى لتفسير عدم اندلاع الانتفاضة، ولكنها آتية عاجلًا أم آجلًا، لأن المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني الإجلائي لا يزال مفتوحًا ولم يغلق، وأطماعه التوسعيّة تكبر، وتتجه "إسرائيل" أكثر وأكثر نحو التطرف.

قد تأخذ الانتفاضة القادمة شكل الموجات المتلاحقة والانتفاضات المحليّة على خلفيّة عناوين عديدة، ولكن حتى تنتصر من المفترض أن تكون لها قيادة واحدة وهدف واحد ومقاربة إستراتيجيّة جديدة مختلفة عن تلك التي اعتمدت حتى الآن ولم تحقق أهداف الشعب الفلسطيني. كما أنها بحاجة إلى روافع تنظيميّة وجماهيريّة واقتصاديّة وثقافيّة وقانونيّة تستند إلى جبهة وطنيّة عريضة، يمكن أن تجسدها منظمة التحرير بعد إعادة بنائها وتفعيلها وإصلاحها وضم مختلف مكونات الشعب إليها على أسس تمثيليّة جديدة؛ تمكن مختلف تجمعات الشعب من المشاركة بغض النظر عن أماكن تواجدها داخل الوطن المحتل أو خارجه.