في الثاني من تشرين الثاني من كل عام يتجدد حضور ذكرى مشؤومة على فلسطين وشعبها، والذي منحت بريطانيا بموجبه الحق لليهود في إقامة ما يسمى "وطن قومي" لهم في فلسطين، بناءً على المقولة المزيفة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، تلك المقولة التي كانت تستهدف تزوير الحقائق وتشويه التاريخ.
وكان وزير خارجية بريطانيا آنذاك آرثر جيمس بلفور قد وعد في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917، أحد زعماء الحركة الصهيونية العالمية اللورد روتشيلد بإنشاء "وطن قومي لليهود" في فلسطين، بعد مفاوضات استمرت 3 سنوات دارت بين الحكومة البريطانية من جهة، واليهود البريطانيين والمنظمة الصهيونية العالمية من جهة أخرى.
وشكل ذلك الوعد ـ الذي بدأ الصهاينة وحلفاؤهم البريطانيون بالتحضير له جيداً ـ شكل الدعامة الأساسية لغرس الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، مع العلم أنه وحين صدر الوعد المشؤوم كان تعداد اليهود في فلسطين لا يزيد عن 5% من مجموع عدد السكان.
وأشيع في حينها بأن بريطانيا كانت ترغب في كسب ود اليهود من وراء ذلك الوعد، علماً بأن المسألة تتجاوز مجرد ذلك حتى تصل إلى محاولة السيطرة على مقدرات الأمة العربية والإسلامية ومنع سير أي تقدم فيها والعمل على عدم قيام أي وحدة محتملة بين أقطارها حتى لو كانت بعيدة عن الوحدة الجغرافية (وحدة اقتصادية، سياسية، فكرية، وحدة القضايا والمصير...الخ)، وبذلك تكون بريطانيا بل والغرب كله، قد حققوا أكبر مكاسب يمكن أن تُجنى من وراء ذلك الوعد، الذي استهدف الأمة العربية والإسلامية في صميم حضارتها وتراثها وتاريخها.
وبالفعل كان وعد بلفور وكان أول حصاد إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق هو تتابع وتلاحق موجات الهجرة "اليهودية" من شتى أقطار العالم، لتنصهر في "بوتقة اليهودية" أكثر من 70 جنسية من بلاد عربية، والهند، وأوروبا، وروسيا، وأمريكا، وغيرها.
وكان أن تلاحقت الهجرات اليهودية إلى أرض فلسطين حتى ارتفع عدد اليهود في العام 1948 من 50 ألف مهاجر إلى 650 ألفاً.
وكانت الحكومة البريطانية عرضت نصّ تصريح بلفور على الرئيس الأميركي ولسون، ووافق على محتواه قبل نشره، ووافقت عليه فرنسا وإيطاليا رسمياً 1918، ثم تبعها الرئيس الأميركي ولسون رسمياً وعلنياً 1919، وكذلك اليابان، وفي 25 نيسان/أبريل 1920، وافق المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر سان ريمو على أن يعهد إلى بريطانيا بالانتداب على فلسطين، وأن يوضع وعد بلفور موضع التنفيذ حسب ما ورد في المادة الثانية من صك الانتداب، وفي 24 تموز/يوليو عام 1922 وافق مجلس عصبة الأمم المتحدة على مشروع الانتداب الذي دخل حيّز التنفيذ في 29 أيلول/سبتمبر 1923.
ومما تقدم يتضح بأن بلفور كان وعداً صاغته أدمغة غربية عالمية وليست بريطانية فحسب، لأنها استهدفت وجود وحضارة الأمة العربية والإسلامية.
أما ردود الفعل العربية فتراوحت بين الدهشة والتعبير عن الغضب الشديد حيث أرسلت بريطانيا رسالة إلى الشريف حسين، تؤكد فيها أنها لن تسمح بالاستيطان اليهودي في فلسطين إلا بقدر ما يتفق مع مصلحة السكان العرب، من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، ولكنها في الوقت نفسه أصدرت أوامرها إلى الإدارة العسكرية البريطانية الحاكمة في فلسطين، أن تطيع أوامر اللجنة اليهودية التي وصلت إلى فلسطين في ذلك الوقت برئاسة حاييم وايزمن خليفة هرتزل، وكذلك عملت على تحويل قوافل المهاجرين اليهود القادمين من روسيا وأوروبا الشرقية إلى فلسطين، ووفرت الحماية والمساعدة اللازمتين لهم.
أما الشعب الفلسطيني فلم يستسلم للوعود والقرارات البريطانية والوقائع العملية التي بدأت تفرض على الأرض من قبل الحركة الصهيونية وعصاباتها المسلحة، بل خاض ثورات متلاحقة، كان أهمها ثورة البراق عام 1929، والثورة العربية الكبرى 1936، والتي دامت ثلاث سنوات.
من جهتها اتخذت الحركة الصهيونية العالمية وقادتها من هذا الوعد "مستنداً قانونياً"! لتدعم به مزاعمها بإقامة "دولة يهودية" في فلسطين.
وفيما يلي نصّ وعد بلفور:
وزارة الخارجية
2 نوفمبر 1917م
عزيزي اللورد روتشيلد
يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي، الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عُرض على الوزارة وأقرته:
إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهوماً بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.
وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علماً بهذا التصريح.
المخلص
آرثر بلفور