تتناسل الجروح في هذا الحوار المر بين النصل والرقبة..والمشنقة واحدة...
يصعد الفلسطيني شاهدا وشهيدا بعد أن طوحته المنافي وتنهاشته السيوف من كل اتجاه.. ولازال الطريق طريقا إلى هوية لم نستطع أن نجد لدمنا بديلا عن تأكيدها .وظلت فلسطين هي السبيل مهما استطعنا للحياة قدوما.
فمع انبلاج فجر ذلك اليوم في 17 أيلول 1982 قبل اثنين وثلاثين عاماً، استفاق الفلسطينيون واللبنانيون في مخيمي صبرا وشاتيلا وفي حزام الفقر المحيط بهما غرب بيروت على واحدة من أكبر وأكثر جرائم العصر وحشية ودموية في العصر الحديث، جرائم يندى لها جبين الإنسانية وتتنافى مع أبسط حقوق الإنسان وكرامته.. وقد نقلت وكالة "فرانس برس" في تقرير لمراسلها في بيروت سامي كينز، الصورة التالية عن المجزرة:
"في منزل يقع في نهاية ممر ضيق غرفة مظلمة تفترش أرضها مراتب تناثرت فوقها خمس جثث تلتصق بعضها ببعض لرجل وسيدة وصبيين وطفل رضيع اغتيلوا وهم نائمون.
وتتوالى مشاهد الرعب في مخيمي صبرا وشاتيلا للفلسطينيين حيث ألقيت في ممر آخر صغير خمس جثث تغطيها الدماء، وقد انتفخت وجوه الضحايا. لقد أعدموا رمياً بالرصاص في غرفة قبل إلقاء جثثهم خارج المنزل ليتجمع الذباب فوقها ويا لها من بشاعة!
لقد اقتحمت عناصر مسلحة المنازل، وأزاحت الجرافات السيارات وألقتها على جدران المساكن، وتنتشر في بعض الساحات أعداد من الحمير والخيول النافقة، وفي المنازل أوان تمتلئ بالطعام موضوعة فوق المواقد.
وفي أحد الشوارع اغتيلت عائلة حاولت الفرار مع أطفالها، ويتحرك طفل رضيع يرتدي فانلة حمراء بين ذراعي والدته وهو ينظر هنا وهناك.
وعلى مقربة من هذا المكان يمكن مشاهدة ركام من الجثث تناثرت بشكل مثير. وتحت إحدى عربات النقل جثث 15 من الشباب يبدو انه تم جمعهم هنا قبل قتلهم. لقد تحطمت رؤوسهم، وشوهت وجوههم بطلقات الرصاص.
وعلى جانبي الطريق الرئيسي المؤدي من مخيم صبرا إلى مخيم شاتيلا تنتشر جثث القتلى ومن بينها جثث المسنين على الأرصفة، وقد اغتيل شيخ مسن بجانب عربته الصغيرة وقد ظلت قنبلة منزوعة الفتيل تحت ساقه.
وفي مخيم شاتيلا الخالي تماماً من سكانه يحاول بعض الناجين من الرجال والنساء والأطفال حمل بعض حاجياتهم قبل ان يلوذوا بالفرار. وتصرخ النساء وهن يشرن إلى جثث أعضاء أسرهن الذين قتلوا".
وفي كتابه "ويلات وطن"، يصف الصحافي البريطاني روبرت فيسك المجزرة بالقول "كان هناك متراس عال مغطّى بالرمل والتراب، ويرتفع نحو 12 قدماً. وكان من الواضح أن إحدى الجرافات أقامته قبل ساعات. وصعدت بصعوبة على أحد جوانبه وقدماي تنزلقان فوق كتل القذارة الإنسانية. وفقدت توازني عند القمة، فاستندت إلى عمود من الحجر المسوّد الناتئ من الأرض. وسرعان ما تبين أنه ليس حجراً لأنه كان دافئاً ولزجاً ولصق بيدي. وعندما أمعنت النظر إليه وجدت أنه كوع إنسان مغروس في الأرض.
يا لهول ما رأيت! وجدت نفسي ألقي بالكوع بذعر وهلع وأنفض لحم الميت عن سروالي، وأقفز الخطوات الأخيرة نحو قمة الحاجز. لكن الرائحة كانت مرعبة. وفجأة رأيت تحت قدمي وجهاً ينظر إلي وقد طار نصف فمه. وكان من الواضح أنه أصيب برصاصة أو طعن بسكين. أما النصف الثاني من فمه فكان يعجّ بالذباب. وحاولت أن أنظر إليه. ورأيت جنكنز وتفايت يقفان بعيداً بجانب بضع جثث تكومت أمام أحد الجدران. ولم أستطع أن أصرخ طالباً مساعدتهما خوفاً من أن أصاب بمرض إذا فتحت فمي.
مشيت على قمة الحاجز، وأخذت أبحث كاليائس المستميت عن مكان أقفز منه إلى الجانب الآخر. لكن وجدت أنني كلما تقدمت خطوة، ارتفع التراب أمامي. وأخذ الحاجز كله يهتز اهتزازاً مخيفاً تحت قدمي. وعندما نظرت إلى الأسفل تبين لي أن الرمل لم يكن إلا غطاء رقيقاً وضع لإخفاء الوجوه والأطراف البشرية عن الأعين".
وأضاف "دبلوماسي نروجي من زملاء آن ـ كارينا حضر بسيارته قبل بضع ساعات، وشاهد جرافة تحمل في مغرفتها الحديدية نحو اثنتي عشرة جثة تدلت منها الأذرع والأرجل. من الذي حفر الأرض بهذه المهارة؟ من الذي كان يسوق الجرافة؟ شيء واحد كنا متأكدين منه وهو أن الاسرائيليين يعرفون ما حدث، وأنهم شهدوا حدوثه، وأن حلفاءهم من الانعزاليين اللبنانيين ومسلحي سعد حداد أرسلوا إلى شاتيلا فاقترفوا جريمة القتل الجماعية هذه.
إنه أفظع عمل ارهابي في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وهو الأكبر حجماً وزمناً، وارتكبه أفراد يعرفون تمام المعرفة أنهم يذبحون أناساً أبرياءكما يقول فيسك.
ويؤكد الكاتب محمود كعوش في رأي اليوم بأنه في تلك الجريمة الوحشية تحالف أعداء الإنسانية وقيم الخير والحق والعدل من صهاينة غزاة وخونة محليين جلهم من ميليشيا “القوات لانعزالية اللبنانية” لشن حرب إبادة جماعية ضد أبناء المخيمين وحزام الفقر المحيط بهما، غابت عنها أبسط متطلبات التكافؤ العسكري، أكان ذلك لجهة العدد أو لجهة العدة والعتاد. وفي تلك الجريمة النكراء والمشينة التي كان فيها التعطش لسفك الدماء “سيد الموقف” تحالف جيش الحرب الصهيوني مع الانعزاليين اللبنانيين ليسطرا معاً بالدم والحديد والنار صفحة قذرة جديدة، تُضاف إلى صفحات الإثم والعدوان التي سطرها كيان العدو الفاشي بحق الفلسطينيين على مدار أكثر من ستة عقود ونيف، بذريعة الانتقام لاغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل، ولغرض تصفية الفلسطينيين في المخيمين على غرار ما حدث سابقاً في مخيمات تل الزعتر وجسر الباشا وضبية وما تبعه لاحقاً في مخيم نهر البارد “وما يُنتظر أن يلحق به مستقبلاً في المخيمات الفلسطينية الأخرى، والذي تعبر مظاهره عن نفسها من خلال ما يفتعل بين الحين والآخر من ضجيج حول إسطوانة التوطين المشروخة وإيواء الإرهابيين!!
قرار ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا اتخذته في حينه لجنة صهيونية ثلاثية شيطانية عليا تشكلت من رئيس حكومة العدو في حينه مناحيم بيغن ووزير حربه آرئيل شارون ورئيس أركان جيش حربه رفائيل إيتان، وتقرر أن تكون ميليشيا “القوات الانعزالية اللبنانية” وقبل بدء المجزرة بيومين وتحديداً مع مساء الرابع عشر من أيلول 1982 عقد القادة الصهاينة الثلاثة اجتماعات تخطيط وترتيب مطولة قرروا بنتيجتها اقتحام المخيمين من قبل القوات الانعزالية اللبنانية وبعد مرور يوم على ذلك الاجتماع “في 15 أيلول 1982″ اقتحمت جحافل جيش الحرب الصهيوني الجزء الغربي من مدينة بيروت وطوقت المخيمات. وبعد مرور يومين وتحديداً في صبيحة 16 أيلول 1982 تمت الدعوة إلى اجتماع حضره القائد الأعلى لقوات الشمال في جيش الحرب الصهيوني الجنرال أمير دوري وقائد المجلس الحربي للقوات اللبنانية في حينه فادي افرام، وتم بموجبه تكليف أحد كبار المسؤولين الأمنيين في القوات اللبنانية إيلي حبيقة بالإشراف على التنفيذ.
أجمع المراقبون والمنظمات الإنسانية المحلية والدولية على أن المجزرة بدأت فعلياً في الساعة الخامسة من مساء 16 أيلول 1982 عندما قامت ثلاث فرق عسكرية تكونت كل منها من خمسين مجرماً وسفاحاً من عناصر “القوات اللبنانية”المدججين بمختلف أنواع الأسلحة الصهيونية الفتاكة باقتحام المخيمين وجوارهما والانقضاض على السكان في مضاجعهم، وإعمال القتل والذبح في كل من وصلت إليه أياديهم الآثمة دونما تفريق بين نساء وأطفال رُضع وشيوخ طاعنين في السن، والقيام باغتصاب الفتيات البكر والنساء وبقر بطون الحوامل منهن وإخراج الأجنة منها ونثرها فوق القمامة وفي الأزقة والشوارع ومن بعد قتلهن بالسكاكين والبلطات والآلات الحادة التي استحضروها معهم خصيصاً لذلك الغرض الشيطاني. لقد نشروا الرعب في كل مكان مخلفين وراءهم ذكرى مأساوية سوداء ومؤلمة يصعب محوها مع مرور الأيام من نفوس من نجا من هؤلاء السكان المساكين.
واستناداً لشهود عيان كُتبت لهم النجاة فإن المجزرة قد تواصلت على مدار يومين أسودين من القتل والسحل والذبح والاغتصاب في أجواء القنابل المضيئة التي وفرتها الطائرات الحربية الصهيونية لتسهيل المهمة ووسط قيام دبابات جيش الحرب الصهيوني بإغلاق كل مخارج النجاة في المنطقة المستهدفة ومنع أي كان من الدخول إليها، بمن في ذلك الصحافيين ومراسلي وكالات الأنباء المحلية والعالمية وممثلي المنظمات المدنية والإنسانية اللبنانية والوافدة إلا بعد انتهاء المجزرة في 18 أيلول، حين استفاق العالم على مذبحة من أبشع المذابح في تاريخ البشرية فوجد جثثاً مذبوحة بلا رؤوس ورؤوساً بلا أعين أو أنوف أو آذان، لأكثر من 3500 طفل وامرأة وشيخ وشاب من أبناء المخيمين الفلسطينيين وحزام الفقر اللبناني المحيط بهما، وفق تقديرات توصل إليها الكثيرون من بينهم الصحفي الصهيوني “آمنون كابليوك “. وقد ذهب البعض إلى القول بأن العدد تراوح بين 4000 و 5000 ضحية!!
وفي الوقت الذي كانت المجزرة في ذروة وحشيتها مع مُضي مرتكبيها في استباحة قدسية الروح الإنسانية واستمرار تدفق شلالات دم الأبرياء من الشعبين الفلسطيني واللبناني أيقظ المحرر العسكري الصهيوني رون بن يشاي وزير الحرب الصهيوني الإرهابي آرئيل شارون ليستفسر منه عما كان يجري في الشطر الغربي من العاصمة اللبنانية بيروت، فجاءه الجواب ببرودة واستخفاف “عام سعيد”!! وبعد مرور بضع ساعات على ذلك وفي خطوة دراماتيكية وقحة للتنصل من الجريمة، وقف رئيس الوزراء الصهيوني الإرهابي الأكبر مناحيم بيغن في الكنيست وقال بفرح وسرور بالغين “جوييم قتلوا جوييم…فماذا نفعل؟”،عانياً بذلك أن “غرباء قتلوا غرباء”، أي أن “الغرباء اللبنانيين” قتلوا “الغرباء الفلسطينيين” وأن لا دخل لكيانه العنصري وجيش حربه في ما كل ما جرى!!
اعوام مضت على المجزرة ولم يجرؤ المجتمع الدولي بطوله وعرضه وقده وقديده على ملاحقة الصهاينة المجرمين الذين خططوا لها وسهلوا تنفيذها والذين كان من بينهم من واصل ولازال ارتكاب جرائم القتل والإبادة ضد أبناء الشعب الفلسطيني خلال انتفاضتيه الأولى في عام 1987 والثانية في عام 2000 وخلال الاعتداءات العسكرية الصهيونية الإجرامية على قطاع غزة في الأعوام 2007 و 2008 و 2010 و 2014 وفي مقدمهم الإرهابي المقبور آرئيل شارون، واقرانه في حكومات العدو المتتالية .