الحرب العدوانية على شعبنا ومقاومتنا في قطاع غزة وحدتنا في الميدان، كل الفصائل والقوى قاتلت إلى جانب بعضها البعض ضمن حدود إمكانيات كل فصيل، والجميع التف حول المقاومة وخيارها، ومعنويات الجماهير مع كل ضربة نوعية وإنجاز تحققه المقاومة كانت تطاول عنان السماء،
وبذلك صمدت تلك المقاومة وأدمت العدو ووجهت له ضربات نوعية، وصلت حد فرض الحظر على الطيران المدني ضمن غلافه الجوي، كما أنها إستطاعت منعه من تحقيق أهدافه، أولها كسر إرادة المقاومة، ومن ثم تدمير ونزع سلاحها وتصفية أجنحتها العسكرية وبنيتها التحتية، وتدمير الأنفاق، ورغم فداحة الخسائر البشرية والدمار الهائل للمنازل والممتلكات والتدمير والإبادة الجماعية والتطهير العرقي، إلا أن الروح المعنوية والزخم الشعبي للمقاومة والإلتفاف حولها كان يتصاعد..
والآن والعدوان على غزة يقترب من نهايته، ستبدأ مرحلة التفاوض السياسي، مرحلة أيضاً توحدت كل ألوان الطيف السياسي وتوافقت حولها من خلال وفد موحد في القاهرة لأول مرة، حيث سيجري الفلسطينيون مباحثاتهم موحدين سياسياً في مطالبهم، والتي يقف في مقدمتها رفع الحصار وفتح المعابر وحرية الحركة للبضائع والأفراد.. تلك المطالب لا يجوز لأحد أن يلتف عليها، أو يغلب المصالح وعلاقاته وإرتباطاته بالمحاور العربية والإقليمية عليها.. فدم وتضحيات شعبنا ليست معروضة للبيع في المزاد العلني لهذا الطرف أو ذلك، لكي يبيض صفحته على حساب دمنا.
فنحن قلنا ونقول بأن غزة في حربها وصدها للعدوان كانت تريد سلاحاً قبل أي شيء ومن يقدم ويورد السلاح هو صديق وحليف لشعبنا، ويجب أن لا نتنكر لأصدقائنا وحلفاءنا على مذبح علاقاتنا وإرتباطاتنا العربية والإقليمية في تغليب للأيديولوجي على حساب الوطني، فهذا سيكون مقتل وذبح للنصر المتحقق، ومن شأنه أن يشق وحدتنا السياسية.. ومن وقف إلى جانبنا سياسياًً ويدعمنا أيضاًً حليف لشعبنا، وفي المقدمة منهم بلد المليون شهيد الجزائر وتونس وسوريا ولبنان بمقاومته وكذلك هي إيران في المقدمة الداعم الأول لمقاومتنا عسكرياً وسياسياً ومالياً وإنسانياً.. ونحن لا ننسى لدول من أمريكا الجنوبية وقفتها معنا، والتي تعبّر عن تضامن اممي حقيقي، فكانت هي عربية وإسلامية بإمتياز، في وقت فقدت فيه الكثير من الدول والمشيخات التي تحمل اسم العروبة والإسلام عروبتها وإسلاميتها، فهي بدلاً من أن تقف معنا أو تصمت وقفت إلى جانب العدوان.
ما بعد وقف الحرب العدوانية على قطاع غزة، ستكون هناك الكثير من الدول والمحاور العربية والإقليمية والدولية التي تريد الإستثمار في دماء شعبنا الفلسطيني، وتصفية الحسابات على حسابها، وهناك العديد من الدول التي ستسعى إلى تفريغ صمود شعبنا ونصره من مضمونه، وخصوصاً أن هذا العدوان جاء كاشفاً للعورات، بما يجعل شعبنا ومقاومتنا وقيادتنا قادرة على فرز القمح من الزوان، وصياغة وبناء تحالفاتها وعلاقاتها وفق موقف تلك الدول من قضيتنا وحقوقنا ومشروعنا الوطني.
ما بعد العدوان سيكثر النباحين والقائلين والمشككين بخيار المقاومة وما تحقق، بالقول بأن العدد الكبير من الضحايا والتدمير الهائل، كان يمكن تجنبه وتحقيق ذلك بطرق أخرى، ونحن ندرك بأن هناك أهداف خبيثة خلف مثل هذا الشعار، هدف سعى ويسعى إليه دائماً المنهارون ومثقفو الهزيمة، ألا وهو قتل روح المقاومة والإرادة عند شعبنا.
العدوان والحرب العدوانية، صحيح كانت كاشفة للعورات ولكن يجب علينا أن نعي أيضاً بأن ما خلص إليه العدوان، بأن "إسرائيل" خرجت بحلف وعلاقه استراتيجية وقوية مع العديد من دول النظام العربي، وهذا عبّر عنه نتنياهو ورئيس أركانه يعالون، وكذلك نائب وزير الجيش الصهيوني المقال داني دنون قال "علينا أن ننتصر حتى لا نخذل الدول العربية التي راهنت علينا ووقفت إلى جانبنا"، وهذا مكن الإحتلال أن يشن حربه وعدوانه الهمجي والبربري بغطاء عربي ودولي، وكذلك اصطف إلى جانبه رأس المنظمة الدولية، أمين عام هيئة الأمم المتحدة "بان كي مون"، في مساندة ودعم للجلاد على حساب الضحية.
الآن نحن في مرحلة فارقة ومفصلية، لا يحق لفصائلنا وتنظيماتنا أن تتقاتل وتتصارع وتغلب فئويتها ومصالحها وتحالفاتها ومحاورها على مصالح شعبنا الفلسطيني العليا، والعودة بنا خطوة إلى الوراء، وما حصدناه في المواجهة والقتال والحرب، علينا أن نستثمره ونزرعه في السياسة، ويجب أن يكون مطروحاً الآن ليس فقط رفع الحصار وفتح المعابر بالنسبة لغزة وإطلاق سراح الأسرى، وخاصة الذين جرى إعتقالهم في الحملة الأخيرة على الضفة الغربية، بمن فيهم الأسرى المحررين في صفقة الوفاء للأسرى والذين جرى إعادة اعتقالهم مرة أخرى، بل يجب أن يكون المطروح حل شامل للقضية الفلسطينية ينهي الإحتلال وعبر مؤتمر دولي كامل الصلاحيات، وحذار من الإلتفاف على مطالب المقاومة، أو الهبوط بسقف هذه المطالب، لكي نعود من جديد إلى نقطة الصفر أو البداية "تهدئة مقابل تهدئة"، أو أن يجري إستثمار ما تحقق في الإطار التكتيكي من أجل العودة إلى دائرة المفاوضات العبثية، فهذا خيار سيكون مطروحاً، ولكن العودة بنا إلى مثل هذا الخيار من شأنه، أن يدفع بنا الى إنقسام أكثر حدة وإفتراق وطلاق وإنهاء لحكومة التوافق الوطني، فتجربة المفاوضات ودوامتها وعبثيتها كانت سبباً رئيسياً فيما وصل إليه الوضع الفلسطيني، حيث كان هذا الخيار سبباً مفصلياً في إيجاد الذرائع والغطاء للإحتلال لمواصلة مشاريعه في الإستيطان والتوسع والتطهير العرقي.
سنبقى موحدين في السياسية ما بعد العدوان على غزة، إذا ما جرى التوافق على إستراتيجية فلسطينية موحدة، وإذا ما جرى التوافق على مطالب مقاومتنا وشعبنا في قطاع غزة، ففاتورة الدم والتضحيات الكبيرة، يجب أن تجعلنا متمترسين خلف مطالبنا، لا حصار على غزة وفتح كامل للمعابر، وميناء بحري ومطار وتوسيع لمنطقة الصيد وإنهاء المنطقة العازلة، ووحدة جغرافية ما بين جناحي الوطن (الضفة والقطاع)، وحل شامل للقضية الفلسطينية وفق الشرعية الدولية وبمفاوضات مسقوفة زمنياً وبرعاية دولية، وليس أمريكية أو الرباعية الدولية، فهذه كلها وصفات من أجل إطالة أمد الإحتلال وشرعنته وتكريسه.
وما دون ذلك سنعود مجدداً إلى مربعات التحريض والتحريض المضاد وإضاعة اتجاه البوصلة ومسلسل الإنقسام السرطاني في الجسد الفلسطيني، هذا الإنقسام الذي واحد من أهداف العدوان على شعبنا في قطاع غزة هو العمل على تكريسه وتعميقه بين جناحي الوطن.
* كاتب ومحلل فلسطيني يقيم في مدينة القدس