مرة أخرى، يتحول قطاع غزة إلى حقل رماية لآلة الحرب الإسرائيلية بأشرس ما تملك من أسلحة وأشدها فتكاً وتدميراً. وعنوان الحرب الجديدة، هذه المرة، هي محاربة صواريخ حركة "حماس" وأنفاقها، خاصةً بعد أن اكتشفوا انها باتت تصل الى قلب مواقعهم.
وكالعادة، فإن هذا العنوان، أو الذريعة، هو مجرد غطاء لمشروع حرب معدّة ومقررة سلفاً، كانت تنتظر الوقت الملائم من وجهة نظر المسؤولين الإسرائيليين، لكي تحقق أهدافاً أخرى غير معبّر عنها، معظمها داخلي وله علاقة بالتنافس بين أطراف اليمين المتطرف الإسرائيلي الحاكم على من هو أشد تنكيلاً وعداءً للشعب الفلسطيني، وبالتالي أشد حرصاً على منع تحقيق الفلسطينيين لأي من أهدافهم وتطلعاتهم الوطنية. وبعضها تاريخي وطويل الأمد له علاقة بالموقف من حقوق الشعب الفلسطيني.
ذلك أن المستهدف في الواقع ليس حماس حصراً، ولا مجمل التيار الإسلامي في قطاع غزة، أو، قبل ذلك، أنصار هذا التيار في الضفة الغربية، إثر مقتل ثلاثة من المستوطنين اليهود الإسرائيليين هناك. المستهدف هو الشعب الفلسطيني بمجمله، وهو تطلعاته الوطنية التحررية. فالعدو، والكابوس، بالنسبة للطاقم الصهيوني الحاكم هو هذا الشعب الفلسطيني، الذي لم ينفك يرفض الإستسلام منذ أكثر من سبعين عاماً، ويأبى الرضوخ لقدر السيطرة الصهيونية الإسرائيلية على كل فلسطين، والتسليم بواقع كونه بات مجرد ضيفٍ غير مرحب به بالنسبة لأجيال المستوطنين الصهاينة المتعاقبة، في الأرض الذي يأمل معظمهم أن يستيقظوا يوماً ليجدوا أن هؤلاء "العرب" قد اختفوا وغابوا نهائياً عن أنظارهم، وتركوا لهم كل الأرض التي يعتقدون أنهم كسبوها في مقامراتهم وحملاتهم الحربية المتتالية منذ ستة وستين عاماً ونيّف.
والمحزن أنه، في الوقت الذي يسقط فيه الأطفال والنساء والمسنون، والمدنيون عامةً، في قطاع غزة بالمئات، وأحياناً تباد عائلات كاملة، تحت قذائف آلة الحرب الإسرائيلية، يتواصل خروج أصوات مسؤولين كبار من بعض العواصم الغربية تتحدث، بنفاق وصلافة، عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". ضد من؟ ضد الفلسطينيين الذين شردتهم "إسرائيل" من قراهم ومدنهم وحشرتهم في قطاع غزة، وحاصرتهم وجوّعتهم، والذين لا يملكون من السلاح واحداً من المليون مما تملكه الدولة الإسرائيلية المدججة بكل أنواع الأسلحة، بما فيها أسلحة الدمار الشامل، والمدعومة بلا حساب ولا حدود من مخازن الحرب ومن مراكز القرار الأميركية.
ومشهد الحرب الجديدة التي تخوضها "إسرائيل" ضد قطاع غزة الضيق المساحة (أقل من أربعمئة كيلومتر مربع)، المتواضع الإمكانيات الطبيعية، والمحروم من أبسط مقومات الحياة العادية، يذكّر بكل الحروب التي خاضتها حكومات وزعامات "متخمة" من الدول الإستعمارية ضد الشعوب المستعمرة الفقيرة ومحدودة القدرات في أنحاء العالم. إنها، حقاً، حرب المتخمين وأثرياء النهب الممنهج للأرض والموارد ضد "المستضعفين" و"البؤساء في الأرض"، الذين ليس لهم ما يخسرونه، كما قيل، سوى قيودهم وسجونهم، الكبيرة والصغيرة، وعذاباتهم وانتهاكات حقوقهم وكرامتهم التي لا تنتهي، ولا تجد من يردعها في عالم ما زالت تحكمه صيغة متطورة من شريعة الغاب، بالرغم من كل إدعاءات الحضارة والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
ولأن ليس لأهل غزة ما يخسرونه، فهم يستبسلون في القتال ضد المعتدين بصدورهم العارية وسلاحهم الفردي البسيط، ويخوضون حرباً غير متكافئة. وهي حرب غير متكافئة ليس فقط في الميدان وعلى الأرض، وإنما كذلك في بعض الساحات الإعلامية، التي لا زالت تقدم الصورة مشوهة لهذه المواجهة غير المتكافئة وكأنها حرب بين "اليهود المساكين" و"الغوييم المعادين للسامية"، أو بين الإسرائيليين "المتحضرين" والعرب والمسلمين "المتوحشين" و"الإرهابيين". مع أن المشاهد والشهادات المباشرة والإحصائيات المعلنة حتى الأسبوع الثالث من الحرب تؤكد، وباعتراف كل الأوساط المراقبة الجادة والمؤسسات الدولية المعنية، أن غالبية الضحايا الفلسطينيين هي من المدنيين العزّل، والإصابات من الجانب الإسرائيلي هي كلها تقريباً من العسكريين.
كم من الظلم الإضافي ينبغي أن يتحمل شعب فلسطين حتى يتوصل إلى إقرار دولي، فعلي وليس نظرياً، بأن له الحق في الحياة الكريمة والحرة على أرض الوطن، الذي ليس له وطن غيره..!
***
المشكلة، في الواقع، هي استمرار إنكار أصحاب القرار والنفوذ في "إسرائيل" لأي حق للشعب الفلسطيني في وطنه، بما في ذلك وخاصة حقه في الإستقلال والتحرر من قيود الإحتلال وإذلالاته.
فإذا كان آريئيل شارون قد سحب قواته ومستوطنيه من قطاع غزة في العام 2005، فهو لم يهدف من ذلك سوى للتخلص من كتلة بشرية لا يريد لها أن تدخل ضمن الحسابات الديمغرافية للأراضي التي تسعى "إسرئيل" للإحتفاظ بها تحت سيطرتها، بحيث لا تصل الأمور في وقت قريب إلى تجاوز عدد العرب الفلسطينيين في كل مساحة فلسطين بحدود ما قبل 1948 (والتي يسمونها هم "أرض إسرائيل"..!) عدد اليهود الإسرائيليين. ولكن شارون لم يرد بقراره هذا، قرار "الفصل آحادي الجانب"، ترك قطاع غزة يتدبر شؤونه ويدير حياته. بل أراد إبقاءه محاصراً وتحت الرقابة والسيطرة الدائمة، براً وبحراً وجواً، وتحت سيف القصف والإغتيال والعقاب الجماعي، خاصةً إذا ما واصل تضامنه مع بقية شعبه، في أنحاء وطنه الأخرى كما في أقطار اللجوء والشتات.
اختار شارون الخيار الأقل كلفة، بشرياً واقتصادياً، للتحكم بقطاع غزة من خارجه، ولم يسلّم طبعاً بأي من حقوق الشعب الفلسطيني في وطنه. ونحن نعلم أنه كان، طوال عقود طويلة، من أشد المتحمسين لنظرية "الوطن البديل" للفلسطينيين في الأردن. وهو بذلك كان يصرّح علناً بما لم يكن بعض أصحاب القرار في "إسرائيل" غيره يجرؤ على التصريح به: "إسرائيل" لا تنوي التخلي ليس فقط عن القدس الشرقية وإنما كذلك عن كل الضفة الغربية، ولا تنوي التخلي عن استمرار التحكم بمصير قطاع غزة. وإذا صرّح أحدهم بغير ذلك، وإذا ما سلّم حتى بنيامين نتنياهو بلفظة "الدولة الفلسطينية" في أحد خطبه، فذلك فقط في سياق التمويه والتغطية على النوايا الحقيقية، ولكسب المزيد من الوقت لمضاعفة أعداد المستوطنين اليهود الإسرائيليين في القدس الشرقية وأنحاء الضفة الغربية، بحيث يصبح الضم أمراً واقعاً غير قابل للرجوع عنه، وينتهي العرب والعالم، كما يأملون، بالتسليم بواقع لا قدرة، أو لا رغبة، لديهم للتصدي له أو لتغييره.
***
شعب غزة الصامد والصابر والمكلوم، ومناضلوه ومقاوموه المقدامون الشجعان، لذلك، يواجهون في هذه الأيام الصعبة والمؤلمة والمجيدة، في آن واحد، كل مشروع الإلغاء الصهيوني، كل محاولات زعماء "إسرائيل" لإعادة إلغاء ما تحقق للشعب الفلسطيني من اعتراف مبدئي ونظري بالحقوق الوطنية في أنحاء العالم وفي المؤسسات الدولية، ولمواصلة الحؤول دون تحوّل هذا الإعتراف النظري الى أي واقع فعلي على الأرض في أي أمد قريب.
بالطبع، لم تعد الأوضاع في العالم تتقبل كلاماً من نمط تصريح غولدا مئير الشهير لصحيفة "صنداي تايمز" في أواسط العام 1969 بأن ليس هناك شيء اسمه شعب فلسطيني، أو كلام مناحيم بيغن في أواخر السبعينيات الماضية بأنه هو نفسه فلسطيني، وأن الآخرين، أي العرب الفلسطينيين، هم "عرب أرض إسرائيل"، وهو التعبير الذي أصرّ على تضمينه في نصوص وملاحق اتفاقيات كامب ديفيد قبل أكثر من ربع قران.
ولكن، للأسف، وبالرغم من كل ما حققته نضالات الشعب الفلسطيني وتضحياته المتواصلة منذ أكثر من أربعة عقود، ما زال ممكناً إنكار الحقوق الوطنية الفلسطينية بالممارسة وعلى الأرض، مع الإدعاء علناً ولفظياً بالإقرار بشكل من الأشكال بها: هذا هو موقف ليس "إسرائيل" وحدها، وإنما موقف الكتلة المسيطرة على القرار والنفوذ في الدولة الأقوى في العالم، والحليف الأول للدولة الإسرائيلية، الولايات المتحدة. ولذلك تستمر عذابات الشعب الفلسطيني، وتتواصل المذابح التي يتعرض لها، بالجملة والمفرق، في قطاع غزة، كما في القدس الشرقية والضفة الغربية، ناهيك عن عذابات ومآسٍ لا تتوقف لتجمعات المشردين الفلسطينيين خارج وطنهم، الى جانب الإضطهاد القومي والعنصري المتزايد ضد العرب الفلسطينيين الذين بقوا في مدنهم وقراهم وفوق أرضهم عندما أقامت الحركة الصهيونية "دولتها" عليها في العام 1948.
حرب صيف 2014 على شعب غزة، لذلك، لن تكون، على الأغلب، الأخيرة ضد القطاع أو ضد تجمعات الشعب الفلسطيني الأخرى. وحرب الإبادة السياسية (والبشرية بين حين وآخر) للشعب الفلسطيني ستتواصل، على الأغلب، طالما هناك أطراف دولية مؤثرة ما زالت تنظر إلى الطرف المعتدي والمتجبّر على أنه "يدافع عن نفسه"، ولا تنظر إلى جموع الفقراء والبؤساء في قطاع غزة، وغيره من تجمعات الشعب الفلسطيني، إلا بنظرة "المتخمين" الذين يعتقدون أن صدقاتهم المحدودة تشتري لهم صمت وخنوع هؤلاء الناس، الذين تحمّلوا ما يكفي من الظلم والمهانة طوال عقود طويلة، والذين لا بد من التعامل معهم كبشر لهم حقوق ولهم كرامة ولهم حق في الحياة الحرة في أرض وطنهم، مثلهم مثل غيرهم من شعوب العالم.
* كاتب ومفكر فلسطيني- رام الله