هل ما يجري في الأرض المحتلة منذ عمليّة الخليل وحتى الآن من مواجهات متنوعة للعدوان والعقوبات الجماعيّة انتفاضة أو مقدمة لانتفاضة، أو استمرارًا للمواجهات الممتدة طوال السنوات الماضية، التي تركزت في منطقة واحدة أو عدة مناطق وكانت تحت عنوان واحد؟
ما يجري حتى الآن من مواجهات على أهميته ليس انتفاضة، مع أن العدوان الإسرائيلي وصل إلى معدلات غير مسبوقة أقل منه بكثير في الماضي كان يؤدي إلى انتفاضة، وإنما يمكن وصفه بمواجهات يمكن أن تتصاعد إلى ما يشبه الانتفاضة كما حدث بعد جريمة حرق وقتل الشهيد محمد أبو خضير، ويمكن أن تتحول المواجهات التي أخذت شكل الموجات المتلاحقة إلى انتفاضة إذا استكملت شروطها، فهناك شروط كثيرة من شروط اندلاع الانتفاضة متوفرة، ولكنّ هناك شروطًا غير متوفرة.
ويدفع نحو تحول المواجهات إلى انتفاضة فقدان الأفق السياسي، ولأي أمل بالتوصل إلى اتفاق ينهي الاحتلال ويحقق السيادة والعودة وتقرير المصير عن طريق المفاوضات الثنائيّة برعايّة أميركية، وإثبات حسن النوايا والجدارة وبناء مؤسسات الدولة تحت الاحتلال، بعيدًا عن مرجعيّة تتضمن الحقوق الفلسطينيّة، ولو بالحد الأدنى. إضافة إلى معاناة آلاف الأسرى، وتدهور الوضع المعيشي لأغلبيّة الفلسطينين الرازحين تحت الاحتلال، والتمييز العنصري الذي يطال الفلسطينيين في الداخل وفي الأراضي المحتلة العام 1967، وترسيخه باستمرار من خلال إقرار سلسلة لا تنتهي من القوانين العنصريّة.
أما ما يحول دون اندلاع الانتفاضة حتى الآن أنّ المشروع الوطني الفلسطيني لم يعد واضحًا: هل هو الاستقلال والعودة وتقرير المصير، أم إقامة دولة فلسطينيّة ضمن الأراضي المحتلة العام 1967، أم تحرير فلسطين والعودة، أم إقامة دولة واحدة لكل مواطنيها أو ثنائيّة القوميّة؟
وكذلك أنّ القيادة الفلسطينيّة، وتحديدًا الرئيس أبو مازن، لا يؤمن بضرورة الانتفاضة، ويعتبرها مدمرة، وأن السلطة تسعى جاهدة لمنعها، وأنه لا بديل عن خيار المفاوضات الثنائيّة، وكلما تفشل فالبديل عنها المزيد من المفاوضات، وإذا واجهت فشلاً جديدًا يتم اللجوء إلى خيارات أخرى، مثل المقاومة الشعبيّة والمقاطعة والتوجه إلى الأمم المتحدة والمصالحة، بشكل انتقائي ومحدود ومؤقت؛ من أجل الضغط التكتيكي لاستئناف المفاوضات أو لتحسين شروطها، وفي ظل خشية غير مفهومة من تحوّلها إلى خيارات إستراتيجيّة جديدة ما أفرغها من أهميتها.
تأسيسًا على ما سبق، فإن ما أدى إلى تأخر الانتفاضة، ويمكن أن يؤدي إلى تأخرها أكثر غياب القيادة الواحدة والمشروع الوطني المشترك بعد تآكل المشروع الوطني بعد سلسلة لا تنتهي من التنازلات والسياسات الفاشلة، وتحول السلطة إلى وكيل أمني للاحتلال في ظل حكم ذاتي من دون سقف زمني، بعد أن انتهى السقف الزمني المحدد في "اتفاق أوسلو" منذ أيار 1999 من دون وقف هذا المسار المدمر، وغياب المؤسسة الجامعة في ظل حالة الشلل التي تعيشها منظمة التحرير، وترهل وتدهور دور الأحزاب والنقابات والاتحادات الشعبيّة ومختلف مؤسسات المجتمع المدني لصالح عناصر وشرائح ومؤسسات نمت ثروة ونفوذًا داخل السلطة وخارجها، بعد اعتماد سياسة اقتصاديّة منفتحة للغاية تعتمد على القطاع الخاص، بحيث نمت النزعة الفرديّة والمصالح الخاصة والجهويّة والعائليّة والعشائريّة والمنظمات الأهليّة المدعومة من الخارج، التي تملأ الحيز السياسي والاجتماعي، على حساب الأحزاب والنقابات والاتحادات والمؤسسات الوطنيّة التي تعمل من أجل المصلحة الوطنيّة وتمثل الشعب أو قطاعًا من قطاعاته.
كل ما سبق ساهم في إيجاد شرائح تحصل على دخل مرتفع يزيد الهوة بين أفراد الشعب الفلسطيني بين طبقات من أصحاب الملايين والرواتب العالية التي ينشأ لها مصلحة برفض الانتفاضة للحفاظ على وضعهم وامتيازاتهم؛ وطبقات فقيرة تزداد فقرًا من دون أدوات فاعلة تدافع عن مصالحها، وفي ظل سلطة تعتمد على المساعدات الخارجيّة المشروطة؛ لضمان بقائها رهينة لعمليّة "سلام" زائفة تستخدم كغطاء لاستمرار الاحتلال، ولقطع الطريق على اعتماد الفلسطينيين لأي خيارات إستراتيجيّة جديدة.
إذا أضفنا إلى ما تقدم التأثير الكبير للانقسام في منع اندلاع انتفاضة. فالانقسام لم ينته بالرغم من تشكيل حكومة واحدة، لأنها لم تسع لتغيير ولا تستطيع تغيير واقع الانقسام في ظل المعطيات القائمة، وأهمها القواعد التي تحكم حوار واتفاق المصالحة وغياب الإرادة السياسيّة لإنهائه. فالانقسام يستنزف الطاقات الفلسطينيّة في صراع داخلي ويجعل الصراع على السلطة والقرار والتمثيل والقيادة يطغى على كل شيء آخر.
إن الانقسام عمّق الخلاف بين معسكر ينادي باعتماد الانتفاضة المسلحة ووضع تعارضًا عمليًا بينها وبين أشكال النضال الأخرى، ومعسكر يعتبر أن الانتفاضة دمرتنا وتدمرنا ويعاند رافضًا الاقتناع بأن طريق أوسلو لا بد وأن ينتهي بعد أن أوصلنا إلى الكارثة، ومعسكر ثالث يركز على اعتماد الانتفاضة الشعبيّة، ولكنه لا يستبعد المقاومة المسلحة، ويرى بسبب الاختلال الفادح في ميزان القوى والأوضاع العربيّة والإقليميّة والدوليّة أن الشكل الرئيسي للمقاومة هو الشعبيّة، أما المقاومة المسلحة فيجب أن يستخدم في أضيق الحدود، وتكون للدفاع عن النفس في مواجهة اعتداءات المستوطنين أو لصد عدوان أو اجتياح لقطاع غزة.
إن ما يساهم أيضًا في عدم اندلاع انتفاضة شعبيّة عارمة ومستمرة أن المكاسب التي حققتها الانتفاضات السابقة أقل بكثير من الآمال والتضحيات والمعاناة التي قدمها الشعب الفلسطيني، لأنها تعرضت لتوظيفها في حل سياسي لم تنضج شروطه، فانتهينا إلى توقيع "اتفاق أوسلو" بعد الانتفاضة الأولى العظيمة، وإلى تكريسه مجددًا بعد الانتفاضة الثانيّة المغدورة.
الشعب الفلسطيني بحاجة إلى جواب مقنع حول: لماذا لم ينتصر حتى الآن بالرغم من ثوراته وانتفاضاته، ولماذا انتهت إلى الفوضى والفلتان الأمني؟ وعندما يصل إلى جواب يفتح له طريق الانتصار ويحول دون انزلاقها إلى الفوضى سينخرط بشكل أكبر في الانتفاضة الثالثة الآتية عاجلاً أم آجلاً، والأفضل ألا تأتي إلا بعد حوار وطني فلسطيني يستهدف مراجعة التجارب السابقة واستخلاص الدروس والعبر، وبلورة رؤية ومشروع وطني وإستراتيجيّات جديدة في سياق العمل من أجل إعادة بناء الحركة الوطنيّة والتمثيل ومنظمة التحرير، على أسس تضمن أوسع تمثيل ومشاركة لمختلف ألوان الطيف السياسي، وفي ظل إدراك أن غياب العمق العربي الإستراتيجي الضروري لدعم الانتفاضة لا يساعد على توفير شروط انتصارها.
إن الاختلال في ميزان القوى وتعنت الحكومة الإسرائيليّة واتجاه إسرائيل الحاسم نحو التطرف من دون ضغط فاعل يدل على أنه لا توجد تسوية وطنيّة أو متوازية في الأفق؛ ما يفرض على الشعب الفلسطيني أن يضع نضالاته على هذا الأساس، بحيث تكون المواجهة على شكل موجات واحدة وراء الأخرى دون انقطاع طويل، ودون التحول إلى انتفاضة شاملة إلى حين توفر الروافع والشروط الكفيلة بانتصارها.
يمكن أن تركز المواجهات في كل مرة على قضيّة واحدة من أجل تحقيقها، مثلما حدث الآن في المواجهات حول القدس والأسرى والاستيطان، مع تنظيم أكبر وحشد أوسع وإصرار عنيد على تحقيق الهدف.
من خلال هذه المواجهة المستمرة تظهر إبداعات وأشكال نضاليّة جديدة تستطيع أن تجمع بين مقاومة الاحتلال واستمرار الصمود والحياة في نفس الوقت، وتنبثق قيادات وقوى وحركات اجتماعيّة جديدة تستطيع قيادة الانتفاضة القادمة على طريق الانتصار.
إن الانتفاضة عمل جماعي إبداعي منظم، وهي بحاجة إلى هدف ناظم كبير قابل للتحقيق يستحق النضال من أجله ضمن مشروع وطني شامل، وإلى مؤسسة جامعة وقيادة وطنيّة موحدة لقوى الشعب، وإلى تنظيم لمختلف قوى وطاقات وكفاءات الشعب، واعتماد اقتصاد قادر على الصمود والتكيف والاستمرار تحت الاحتلال.