لا يبدو السؤال عن الجماعات الجهادية وموقفها مما يجري في غزة ملحاً ومطروحاً على نطاق واسع في النقاش العام عربياً، إذ إن التعاطي مع هذه المسألة دخل في باب البديهيات، فالبديهي هو ألا تتعاطى الجماعات الجهادية في سوريا والعراق وعموم المنطقة العربية مع ما يجري في غزة كما تتعاطى مع الحروب الأهلية العربية. يعود التسليم بهذا الأمر إلى تغيرات طرأت على توجه هذه الجماعات منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، مروراً باحتلال العراق وما تلاه من أحداث، وصولاً إلى الربيع العربي وما جرى من حروب أهلية في ليبيا وسوريا واليمن.
زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن اختار الانخراط في مواجهة الشيوعية السوفياتية في أفغانستان، لكنه بعد نهاية تلك الحرب، ودخول القوات الأميركية إلى الأراضي السعودية لإخراج الجيش العراقي من الكويت، تبنى مواجهة الولايات المتحدة، وفي هذا الإطار أنشأ تنظيم «القاعدة». في الحالتين، انطلق بن لادن من تفسيرات دينية للصراعات الدولية، ترى الصراع بين إيمان وكفر، ما جعله هو ومن كانوا معه من «الأفغان العرب» في خدمة الأهداف الأميركية في الحرب الباردة وضمن الصراع مع السوفيات، ثم كان أن تبنى الرجل حرباً على التحالف «الصليبي اليهودي» الذي تقوده الولايات المتحدة، ويسعى في رأيه إلى القضاء على الإسلام.
قتال الأميركيين يشمل في رؤية بن لادن قتال غالبية الأنظمة العربية والإسلامية التي كفرت بفعل موالاتها للغرب، ناقضةً مبدأ الولاء والبراء، إضافة إلى عدم تطبيقها لأحكام الشريعة، غير أن بن لادن لم يركز جهده الأكبر على محاربة هذه الأنظمة، بل انصب تركيزه على «رأس الأفعى»، لإخراج أميركا من العالم الإسلامي، وبهذا سيتساقط أعداء الداخل، لكنه لم يحدد إستراتيجية واضحة تستند إلى أولويات في محاولة إيلام الولايات المتحدة، وقد كان مثلاً استهداف إسرائيل، القاعدة الغربية الأهم في منطقتنا، أكثر جدوى من عملياتٍ متفرقة تستهدف الأميركيين، دون تمييز بين المدني والعسكري.
ما تلا عملية الحادي عشر من سبتمبر من غزو أميركي لأفغانستان، أفقد بن لادن الكثير من القدرة على السيطرة على الجماعات المرتبطة بتنظيم «القاعدة» في أماكن مختلفة، وهو الأمر الذي أدى إلى نوع من الاستقلالية عند هذه التنظيمات. لقد كانت هذه بداية نشوء حالات جهادية بأولويات مختلفة، كرسها أبو مصعب الزرقاوي، زعيم جماعة «التوحيد والجهاد» في العراق، بنقله تنظيم «القاعدة» إلى مرحلة جديدة بعد احتلال العراق، تقوم على أولوية عدو الداخل. بايع الزرقاوي بن لادن، لكنه سار باتجاه ضرب العمق الديني والسياسي للشيعة في العراق، دون تمييز بين مدني وعسكري، واعتبرها أولوية للعمل الجهادي.
أبدى بن لادن تحفظه على إستراتيجية الزرقاوي، عبر رسائله المنشورة، كما إن أيمن الظواهري أكد في رسالة للزرقاوي عام 2005 على موقف سلبي من الشيعة، لكنه تحفظ على مهاجمة عوام الشيعة ومساجدهم، لأن ذلك مدعاة للنفور من المجاهدين، والانشغال عن الأميركيين. لم يكترث الزرقاوي، وسار على طريق إعطاء الأولوية لعدوّ الداخل من الرافضة والمرتدين (وهذا يشمل شريحة سنية كبيرة)، وسار على نهجه أبو عمر البغدادي ثم أبو بكر البغدادي، وتكرس هذا النهج في سوريا لاحقاً، وكان الاختلاف بين تنظيم «الدولة الإسلامية» بزعامة البغدادي، وتنظيم «جبهة النصرة» بزعامة الجولاني، اختلافاً تنظيمياً، لا عقائدياً ولا إستراتيجياً (والجميع أبناء الزرقاوي فكرياً)، وظلت الأولوية لعدوّ الداخل ضمن تفسير ديني/مذهبي للصراع.
النتيجة كانت حروباً أهلية دموية في المشرق العربي، تميزت بتموضع كثير من الجهاديين في موقع التحالف مع أميركا وحلفائها لمواجهة عدو الداخل. النتيجة اليوم، أن أقصى ما يمكن أن تقدمه جماعات جهادية في سوريا لغزة هو التعاطف اللفظي، لأن ما هو أكثر من ذلك يتطلب تغيير تموضع هذه الجماعات وأولوياتها، والانقلاب على كامل مسارها في السنوات الماضية، فالانحياز العملي لغزة يعني انحيازاً لن ترضاه أميركا مع إيران وحلفائها، وهذا يعني نهاية أي دعم قائم أو مرتجى من أميركا وحلفائها في المعركة الأساسية لهذه الجماعات. هكذا نجد أحاديث عدد من الأعضاء البارزين لهذه الجماعات تؤكد أن أولويتها العداء لإيران وحلفائها وليس إسرائيل، وتبرر حتى التحالف مع إسرائيل ضد إيران ومن معها.
يشير هذا الأمر إلى أهمية المعركة التي خاضتها مجموعة من ليبراليي الربيع العربي، مع إعلام الناتو العربي، لتغيير إعدادات الوعي العربي في ما يخص أولويات الصداقة والعداء، والتناقضات الرئيسية والثانوية، وإقناع الرأي العام العربي أن إيران وغيرها أخطر من إسرائيل والغرب الاستعماري. تضييع التناقض الرئيسي مع الغرب الاستعماري، وإعلاء التناقضات الثانوية لتكون رئيسية، والرؤية الطائفية للصراع في المنطقة، تقود إلى الارتماء في حضن الاستعمار طلباً لنصرته، والأمثلة موجودة في الأحزاب العراقية الطائفية الداعمة للغزو الأميركي لبلادها عام 2003، كما في الجماعات المسلحة في سوريا بعد عام 2011.
أعادت غزة تأكيد بديهية التناقض الرئيسي مع القوة المهيمنة الباطشة، المعيقة بشكل أساسي لأي نهوض وتقدّم، فكان من البديهي ألا ترتجى نصرة غزة ممن لا يجعل هذا التناقض رئيسياً.
* كاتب عربي