تُعدّ الانقسامات الداخلية في "إسرائيل" فرصة لحركات المقاومة في مختلف الساحات لتعزيز موقفها في الساحة الإقليمية وزيادة التأثير على مجريات الأحداث.
رغم الكمّ الضخم من التحليلات التي تناولت عن كثَب النتائج المترتّبة على عملية "طوفان الأقصى"، إلا أنّ ثمة قصوراً لا يزال قائماً في رصد آثار الزلزال الفلسطيني الذي ضرب "إسرائيل" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، على الأخص فيما يتعلق بانهيار ثقة الشارع الإسرائيلي بحكومته، وتراجع إحساس "المواطن" العادي بالأمان، وما يترتّب عليه من استعداده للتجاوب مع أيّ نشاط يحمل لافتة المعارضة، لكنه في جوهره يحمل طابعاً متطرفاً.
تلك الحالة الانشطارية التي باتت تطال حتى أصغر "مستوطنة" يهودية، ويتجسّد قدر متواضع منها في مناكفات الساسة المعارضين مع خصومهم في جبهة الموالاة، قد تتطوّر إلى حالة عامة من التخريب والفوضى، ومن الوهم تصوّر إمكانية أن تنجح قوات الأمن الإسرائيلية في التصدّي لها في حال اندلاعها واتساع رقعتها، لأسبابٍ تتعلق بضآلة خبرة الشرطة الإسرائيلية إزاء هذا النوع من التحديات الداخلية، ولأسبابٍ أخرى تتعلق بسعي الحكومات الإسرائيلية دوماً للحفاظ على صورتها كـ "واحة للديمقراطية، وحرية التعبير " في الشرق الأوسط ذي الطابع الاستبدادي".
خلال العام الفائت، ظهرت عديد من الدعوات داخل "إسرائيل" تحرّض على رفض الخدمة العسكرية، إذ وقّع نحو 140 من قدامى المحاربين على رسالة احتجاج تطالب نتنياهو وحكومته بالسعي إلى تحسين ظروف المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية قبل عودتهم للخدمة العسكرية، كما طفا على السطح من جديد التوتر المتعلق بالتمييز بين السفارديم والأشكناز، كذلك بين العلمانيين والمتدينين، وبات نقد إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية حديث الساعة داخل "إسرائيل"، إلى الحد الذي اضطر الحكومة، رغم طابعها الديني المتطرف، لاتخاذ خطوات حياله.
من جانب آخر، بات الإعلام العبري مهموماً بدرجة كبيرة بمسألة الهجرة العكسية من "إسرائيل" إلى العواصم الغربية، خاصةً أن تنامي الضغوط السياسية والاجتماعية، وكثافة التهديدات الأمنية التي تُحدثها صواريخ المقاومة قد دفعت أعداداً كبيرة من المهنيين الإسرائيليين، والأشخاص من ذوي الكفاءات والذين حصلوا على قدر عالٍ من التعليم إلى البحث عن فرص حياة أفضل في دولٍ أوروبية، يستطيعون فيها العيش بأمان، مع ضمان مستقبل مستقر لعائلاتهم.
الأوضاع الاقتصادية داخل "إسرائيل" اليوم، والتي تأكلها نيران الحرب، ستعمّق بدورها حجم الانقسام داخل الشارع الإسرائيلي، وليس من العبث أن تسمع قادة المعارضة الإسرائيلية، وهم يرددون مقولات زبغنيو بريجنسكي، التي تتحدث عن أن "الاقتصاد ليس مجرد مؤشر للرفاهية، بل هو المقياس الحقيقي للأمن".
فالأمور داخل "إسرائيل" آخذة بالتفاقم، واعتباراً من عام 2024، تعاني من تباطؤ اقتصادي حاد، إذ يعدّ النمو الاقتصادي في "إسرائيل" الأضعف بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، مع ارتفاع معدلات التضخم، وزيادة أسعار الفائدة، واضطرابات في سلاسل التوريد.
كذلك لا تزال "عنتريّات" نتنياهو عاجزة عن إعادة الأسر الإسرائيلية التي هاجرت من المناطق الجنوبية والشمالية إلى منازلها، كما أن وزير الاقتصاد الإسرائيلي، نير بركات، والذي يتوعّد المقاومة صباح مساء، كما هو حال عموم أعضاء حزب الليكود، أصبح ذاته شخصاً مكروهاً من الشارع الإسرائيلي، بعد ارتفاع تكلفة المعيشة، ووصول أسعار المواد الغذائية إلى أرقام قياسية، إذ تزيد بنسبة 51% عن متوسط الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى استمرار هروب رؤوس الأموال.
إقالة غالانت.. وتزايد الاضطرابات الداخلية
تشير التقارير إلى أن غالبية الإسرائيليين يرون أن الانقسامات الداخلية تمثل تهديداً أكبر من التهديدات الخارجية، لذا فثمة شعور يتصاعد الآن بأن الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تهيمن على حكومة الاحتلال تأخذ "البلاد" إلى المجهول عبر السعي إلى احتكار السلطة من جهة، والهوس بتوسيع رقعة القتال وإشعال المنطقة ككل من جهة أخرى، وقد جاءت إقالة وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، من قِبل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لتضيف مزيداً من الزيت على النار، مما يجعل الأوضاع أكثر تعقيداً، خاصة مع تفاقم التحديات الأمنية.
ورغم وعود الإدارة الأميركية العاجلة بأنها ستُقدّم دعمها للوزير الجديد، يسرائيل كاتس، إلا أن غالانت كان يُنظر إليه داخلياً وخارجياً باعتباره حلقة وصل مهمة بين الإدارة الأميركية و"تل أبيب"، إذ كان يمثّل "الصوت المعتدل" في الحكومة الإسرائيلية، أو الوجه الأكثر عقلانية مقارنة بالمختَلين، بن غفير وسموتريتش. وقد جاءت إقالته وسط ضغوط داخلية وخلافات مع نتنياهو حول قضايا تتعلق بإدارة الحرب وأمور سياسية أخرى، خاصة فيما يتعلق بالتجنيد الشامل لليهود الحريديم واسترداد الأسرى من غزة، وملف الإصلاحات القضائية.
وقد أثارت إقالة غالانت ردود فعل غاضبة من قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي، ودعت المعارضة إلى احتجاجات، خرجت على أثرها تظاهرات ضخمة في شوارع "تل أبيب" والقدس المحتلة، وتم إغلاق طرق رئيسية وأُشعلت النيران في بعض النقاط، واعتبر المحتجون الإقالة قراراً "جنونياً" في وقت حساس، مما يعكس حالة من الاستياء الواسع في المجتمع الإسرائيلي من الطريقة التي تُدار بها الأمور في الحكومة الحالية.
يبحث نتنياهو عن أي وسيلة ممكنة لتعزيز سلطته السياسية، ذلك عبر الرضوخ لمطالب حلفائه من اليمين المتطرف، وهو ما يثير بدوره غضب خصومه السياسيين. وقد اعتبر زعيم المعارضة، يائير لبيد، أن قرارات رئيس الحكومة تعرّض أمن "إسرائيل" للخطر، وأن تلك الخطوة دليل على عدم كفاءة نتنياهو وفشله في إدارة شؤون البلاد.
المهم في تلك الأجواء، أنّ الوضع الحالي يشير إلى أن هناك توتراً متزايداً في المجتمع الإسرائيلي بعد هذه الإقالة، مع دعوات لتوسيع مساحة الاحتجاجات، لتتحد مع التظاهرات التي تنظمها عائلات الأسرى الإسرائيليين، وتتكامل في أهدافها مع دعوات الإضراب التي يُطلقها الاتحاد العام لنقابات العمال "الهستدروت"، كل ذلك بدوره يزيد من شعور الإسرائيليين بالقلق نتيجة التداعيات الأمنية لقرارات الحكومة التي تتسم بالرعونة وقصر النظر.
تلك الحالة من الفوضى السياسية داخل "إسرائيل"، وشعور الشارع أن حكومة نتنياهو باتت تخضع للأهواء الشخصية أو النزوات العقلية، جميعها أمور ستؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى حالة عامة من فقدان الثقة بالمستقبل، مما يثير تساؤلات حول إمكانية تطور تلك الاضطرابات إلى صراع داخلي أو حرب أهلية، تحديداً مع القرارات التي تدفع نحوها أحزاب الليكود والصهيونية الدينية وشاس، وجميعها تصبّ في صالح تعزيز الانقسامات وتفجّر الأوضاع.
وبناءً على تلك التفاعلات، يمكن أن يستفيد محور المقاومة من الاضطرابات والانقسامات المتنامية داخل "إسرائيل"، عبر عدة طرق، نرصدها في النقاط الآتية:
أولاً، كشف حقيقة الإدارة الإسرائيلية
يمكن للإعلام المنحاز للمقاومة وقضاياها تسليط الضوء على ضعف الاستقرار السياسي والاجتماعي في الكيان الصهيوني، وتأكيد أن "إسرائيل" كيان ممزق وغير متماسك، ولديه حزمة متنوعة من المشكلات الاقتصادية، كما يعاني من انقسامات عميقة تمتد إلى الجذور، وأن حكومة الاحتلال تدير الأمور بأساليب لا تنتمي إلى السياسة الحديثة، بل على العكس تتسم إدارة نتنياهو بطابع استبدادي، وغير نزيه في الآن ذاته، إذ تشير الصحافة العبرية إلى العديد من اتهامات الفساد التي تطال كبار المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية.
ثانياً، تعزيز الدعم الشعبي العربي
إذا كانت "إسرائيل" في حالة ضعف وتشهد تراجعاً في معدلات الأمن والاستقرار، فمن المفترض أن يؤدي انتشار تلك الحقائق إلى استعادة الشعب العربي ثقته في مشروع المقاومة، وقدرة حركاتها على استرداد الأراضي الفلسطينية المسلوبة وتحريرها من الاحتلال.
فثمة عامل مهم يحجب قطاعات من الشارع العربي عن تأييد المقاومة، يدور حول "تضاؤل الأمل" أو "الشعور بصعوبة الانتصار على إسرائيل"، ومن المؤكد أن إدراك الجمهور العربي للصعوبات التي تحيق بـ "إسرائيل" اليوم، سيرفع من معدلات دعم المقاومة.
ثالثاً، توظيف المعارضة
مع استمرار الانقسامات وتنامي حالة الاضطراب الداخلي، يمكن لفصائل المقاومة توظيف تلك الحالة لصالح مشروعها الرامي إلى توجيه ضربة قاصمة إلى "إسرائيل"، إذ ستكون هناك الفرصة لتوجيه ضربات متتالية للإدارة الإسرائيلية من الخارج والداخل، وهو اتحاد كفيل بتحقيق الفوز المنشود.
رابعاً، استغلال الفرص الأمنية واستهداف نقاط الضعف
مع زيادة القلق في "إسرائيل" بشأن التحديات الداخلية، قد تُتاح لحركات المقاومة الفرصة للتوسّع في العمليات العسكرية أو تنفيذ استراتيجيات جديدة، والاستفادة من انشغال حكومة الاحتلال بمشكلاتها الداخلية، وقد تُستخدم الانقسامات كفرصة لاستهداف نقاط الضعف، مثل الضغط على "تل أبيب" لتحقيق مكاسب على الأرض أو تحسين الوضع الفلسطيني بشكل عام أو الضغط عليها لإيقاف العدوان على قطاع غزة.
خامساً، الحرب الإعلامية وخلق انطباعات دولية سلبية
وذلك من خلال العمل على تقديم "إسرائيل" للعالم باعتبارها دولة غير مستقرة وغير آمنة وربما قمعية، ما قد يؤدي إلى تراجع الدعم الدولي عنها، وإن لم يُثمر هذا النهج على مستوى الحكومات الغربية، فسيكون له تأثير شديد الأهمية بالنسبة للشعوب، التي ستنظر إلى "إسرائيل" بنظرة سلبية، على عكس الصورة التي حاول قادة الكيان السابقون الترويج لها على مدار العقود الماضية.
بشكلٍ عام، تُعدّ الانقسامات الداخلية في "إسرائيل" فرصة لحركات المقاومة في مختلف الساحات لتعزيز موقفها في الساحة الإقليمية وزيادة التأثير على مجريات الأحداث، ولطالما استُخدمت تلك الاستراتيجيات في العديد من الصراعات الدولية، في إطار الحرب النفسية، ولدى القوى الاستعمارية الغربية باع طويل في توظيف تلك الأحداث ضد عموم دول الجنوب.. وربما آن لجبهة المقاومة أن تتلاعب بنقاط الضعف لدى أعدائها، وأن تعمل وفقاً لنصيحة أحد المحرّضين على "صراع الحضارات"، صمويل ف. هانتنغتون، حينما قال "لقد تتمكّن من تحقيق نصف انتصارك، عندما تكون حكومة العدو مشغولة بمشكلاتها الداخلية"!.