Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

تشريح الإبادة الجماعية ومآلاتها

فلسطين اليوم

على خلفية عمليات التدمير والقتل الجماعي والجنون الإسرائيلي المستعر في لبنان وغزة، كتب الصحافي الأميركي، كريس هدجز، مدير مكتب "نيويورك تايمز" الأسبق في الشرق الأوسط، تحليلاً وافياً يُشرّح الإبادة الإسرائيلية ومن قبلها الإبادات الأميركية، ويحذر ليس فقط من زوال "الدولة" الصهيونية، بل من عدم استمرار الولايات المتحدة كأمة.

يؤكد الكاتب أن "إسرائيل" ستستمر في الإبادة الجماعية لتحقيق أهدافها المباشرة، ولكن في الأمد البعيد فإن رد الفعل الناتج من الإبادة الجماعية التي ترتكبها سوف يحكم على "الدولة" الصهيونية بالهلاك.

إن الإبادة تنجح في البداية. وهذا هو الدرس الرهيب الذي يعلمه التاريخ. فإذا لم يتم إيقاف "إسرائيل"، وإذا لم تُظهر أي قوة خارجية استعدادها لوقف الإبادة الجماعية والتدمير في غزة ولبنان، فإنها سوف تحقق أهدافها في إخلاء شمالي غزة وضمها إلى "إسرائيل"، وتحويل جنوبي غزة إلى مقبرة جماعية حيث يُحرق الفلسطينيون أحياءً، ويُدمرون بالقنابل ويموتون من الجوع والأمراض المعدية، إلى أن يتم طردهم.

وسوف تحقق "إسرائيل" هدفها المتمثل بتدمير لبنان، حيث قُتل آلاف الأشخاص ونزح أكثر من مليون لبناني، في محاولة لتحويله إلى دولة فاشلة. وربما تحقق قريباً حلمها الذي طال انتظاره بإجبار الولايات المتحدة على الدخول في حرب مع إيران. يسيل لعاب القادة الإسرائيليين علناً إزاء مقترحات باغتيال الزعيم الإيراني آية الله السيد علي خامنئي وتنفيذ غارات جوية على منشآت إيران النووية والنفطية.

إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته، مثل أولئك الذين يقودون سياسة الشرق الأوسط في البيت الأبيض: أنتوني بلينكن، الذي نشأ في أسرة صهيونية متشددة؛ وبريت ماكغورك، الذي يتبنى سياسات استعمارية متطرفة؛ وعاموس هوكشتاين، الذي ولد في "إسرائيل" وخدم في الجيش الإسرائيلي؛ وجيك سوليفان، الذي يتبع المنوال نفسه لهؤلاء، الذين يؤمنون إيماناً حقيقياً بالمبدأ القائل بأن العنف قادر على تشكيل العالم بما يتلاءم مع رؤيتهم المجنونة.

إن حقيقة أن هذا المبدأ كان فشلاً ذريعاً في الأراضي المحتلة من جانب "إسرائيل"، ولم ينجح في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا، وقبل جيل من ذلك في فيتنام، لا تردعهم عن غيهم. وهم يؤكدون لنا أن هذا المبدأ سوف ينجح هذه المرة.

قد ينجحون في الأمد القريب. وهذا ليس خبراً طيباً للفلسطينيين واللبنانيين. وستستمر الولايات المتحدة و"إسرائيل" في استخدام ترسانتيهما من أسلحة الدمار الشامل لقتل أعداد هائلة من الناس وتحويل المدن إلى أنقاض. لكن في الأمد البعيد، يزرع هذا العنف العشوائي أنياب التنين، ويخلق أعداءً يفوقون – بعد جيل واحد – في "الوحشية" ما يسمى الإرهاب، كما حدث لمن قُتلوا في الجيل السابق.

إن الكراهية والرغبة في الانتقام، كما في حرب يوغوسلافيا السابقة، تنتقل من جيل إلى جيل، مثل الإكسير السام. وكان ينبغي لتدخلاتنا الكارثية في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن، وغزو "إسرائيل" للبنان عام 1982، والذي أدى إلى قيام "حزب الله"، أن تعلمنا هذا الدرس.

لقد صُدم مراسلون أميركيون، غطوا الشرق الأوسط، من تصور إدارة بوش أن جيوشها ستُستقبل كمحررين في العراق، بينما أمضت الولايات المتحدة أكثر من عقد من الزمان في فرض عقوبات أسفرت عن نقص حاد في الغذاء والدواء، أدّى إلى وفاة مليون عراقي على الأقل، بما في ذلك 500 ألف طفل. واستقال دينيس هاليداي منسق الأمم المتحدة الإنساني في العراق عام 1998 بسبب العقوبات الأميركية، ووصفها بـ"إبادة جماعية" لأنها تمثل "سياسة متعمدة لتدمير شعب العراق".

إن احتلال "إسرائيل" لفلسطين وقصفها المكثف للبنان عام 1982 كانا مُحَفِزَين على هجوم القاعدة على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 2001، إلى جانب الدعم الأميركي للهجمات على المسلمين في الصومال والشيشان وكشمير وجنوبي الفلبين، والمساعدة العسكرية الأميركية لـ"إسرائيل" والعقوبات المفروضة على العراق.

هل يستمر المجتمع الدولي في الوقوف مكتوف اليدين ويسمح لـ"إسرائيل" بتنفيذ حملة إبادة جماعية؟ هل ستكون هناك حدود؟ أم أن الحرب مع لبنان وإيران ستوفر ستاراً دخانياً لأسوأ حملات التطهير العرقي والقتل الجماعي التي شنتها "إسرائيل" دائماً تحت غطاء الحرب، لتحويل ما يحدث في فلسطين إلى نسخة مُحَدّثة من الإبادة الجماعية؟

يُخشى أن تستمر أنهار الدماء في التضخم، نظراً إلى أن جماعات الضغط الإسرائيلية اشترت أعضاء الكونغرس والحزبين الحاكمين ودفعت إليهم المال، فضلاً عن ترويع وسائل الإعلام والجامعات. فالحرب توفر المال، بل الكثير من المال. وسيشكل نفوذ صناعة الحرب، المدعوم بمئات الملايين من الدولارات التي أنفقها الصهاينة على الحملات السياسية، حاجزاً هائلاً أمام السلام، ناهيك بالعقلانية!

يعتقد هدجز أنه ما لم يتم إلغاء وكالة الاستخبارات المركزية، وإعادة جمع المعلومات الاستخبارية إلى وزارة الخارجية، وإزالة كل وظائف البنتاغون باستثناء الوظائف العسكرية البحتة، فإننا لن ننعم بالسلام مرة أخرى، ولن تستمر الولايات المتحدة على الأرجح طويلا كأمة.

تتم الإبادة الجماعية عبر طريقة الاستنزاف. وبمجرد تجريد جماعة بشرية مستهدفة من حقوقها، فإن الخطوات التالية هي تشريد السكان وتدمير البنية الأساسية وقتل المدنيين بالجملة. كذلك، تهاجم "إسرائيل" وتقتل المراقبين الدوليين في لبنان ومنظمات حقوق الإنسان وعمال الإغاثة وموظفي الأمم المتحدة، وهي سمة من سمات معظم عمليات الإبادة الجماعية. ويتم اعتقال الصحافيين الأجانب واتهامهم بـ"مساعدة العدو"، في حين يتم اغتيال الصحافيين الفلسطينيين وإبادة عائلاتهم.

وفي قطاع غزة، تنفذ "إسرائيل" هجمات متواصلة على وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين ("أونروا")، بحيث دمرت ثلثي منشآتها، وقتلت 223 من موظفيها. كما هاجمت قوة الأمم المتحدة الموقتة في لبنان ("يونيفيل")، وتعرض أفراد قوات حفظ السلام لإطلاق النار والغاز المسيل للدموع وجرح بعضهم بنيران إسرائيلية.

هذا التكتيك يكرر هجمات صرب البوسنة في تموز/يوليو 1995، على مواقع قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة في سربرنيتشا. قطع الصرب إمدادات الغذاء عن الجيب البوسني، وهو ما أدى إلى سوء تغذية شديد ومجاعة، واجتاحوا مراكز الأمم المتحدة واحتجزوا 30 جندياً من قواتها كرهائن قبل أن يذبحوا أكثر من 8000 رجل وفتى من المسلمين البوسنيين.

لقد اكتملت هذه المراحل الأولية في غزة. المرحلة الأخيرة هي القتل الجماعي، ليس فقط بالرصاص والقنابل، وبالمجاعة والمرض. لم يدخل أي طعام لشمالي غزة منذ بداية هذا الشهر.

لقد ألقت "إسرائيل" منشورات تطالب الجميع في الشمال بالإخلاء. يجب على 400 ألف فلسطيني في شمال غزة المغادرة أو الموت. وأمرت بإخلاء المستشفيات، كما تستهدف "إسرائيل" أيضاً مستشفيات لبنان. ونشرت مسيرات لإطلاق النار عشوائياً على المدنيين، بما في ذلك الذين يحاولون نقل الجرحى للعلاج، وقصفت مدارس اتُّخِذت كملاجئ، وحولت مخيم جباليا للاجئين إلى منطقة إطلاق نار حر.

وكما هي العادة، تواصل "إسرائيل" استهداف الصحافيين. وتشير التقديرات إلى مقتل 175 صحافياً ومصوراً وعاملاً في وسائل الإعلام على أيدي القوات الإسرائيلية في غزة منذ الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية.

في عام واحد، ارتكبت "إسرائيل" في غزة أكثر من 3000 مجزرة استهدفت المدنيين وتجاوز ضحاياها 150 ألف شهيد ومفقود وجريح، وحوّلت المستشفيات إلى مقابر جماعية وأبادت طواقمها ونزلاءها وأحرقت مبانيها، واعتقلت آلافاً وقتلت بعضهم تعذيباً، ودمرت المنازل والمدارس والمرافق وآبار المياه، وقصفت مراكز الإيواء وأحرقتها بالمئات، وأحرقت خيام النازحين بقاطنيها ودنست المقابر...

لكن استمرار إنكار بايدن وإدارته لهذه الإبادة، وعدم استنكارهما لذبح المدنيين، أطفالاً ونساءً وشيوخاً يومياً، يُظهران قَبولهما التام بالإبادة سبيلاً واقعياً مقبولاً إلى استدامة الكيان الصهيوني وتمدده!