المبالغة في الانتشاء بأي منجز في المعركة قد يعمي عن وقائعها وصعوباتها. بعد السابع من أكتوبر، توقّع البعض، من فرط الحماسة، انهيار إسرائيل، وبعد عمليات الاغتيال الإسرائيلية في لبنان، المتوَّجة باغتيال القائد التاريخي للمقاومة، بدأ الصهاينة وأنصار أميركا وإسرائيل من العرب الاحتفال، معتقدين أنها نهاية حزب الله. الأمر لا هذا ولا ذاك، ولكن الحرب النفسية الإسرائيلية (الناطقة بلغات عدة) التي أعقبت عمليات الاغتيال هي جزء من العمل الإسرائيلي لاستعادة هيبة الردع، وهو أحد الأهداف الكبرى لحرب الوجود التي يخوضونها، إذ من دون تفوق ردعي حاسم في المنطقة، تضحي وظيفية الكيان الاستعمارية بلا قيمة، كما أن الشكوك حول صلاحية الكيان للعيش تتسلل في هذه الحالة إلى عقول مستوطنيه.يبدو ما يقوم به الإسرائيليون جنوناً، ولكنه ليس حالة انفعالية أو ثأرية بلا حسابات عقلانية. إنه اندفاع منفلت من القواعد السابقة، هدفه، كما يردّد نتنياهو، تغيير المعادلة في «الشرق الأوسط».
لكن خطورة هذا الاندفاع أنه يحظى بتغطية أميركية، وبلا كوابح، بفعل شعور الدولة العميقة في واشنطن بتخلخل هيمنتها في العالم، ورغبتها في إظهار القوة وتحجيم القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا، وفي منطقتنا يصبح الحفاظ على قوة الكيان وإعادة تأهيله، وإضعاف إيران وحلفائها، هدفاً يمكن لأميركا القبول بالذهاب بعيداً من أجل تحقيقه.
ما كشفته المعركة الحالية المستمرة منذ عام هو هشاشة الكيان الصهيوني، ومن هنا يمكن فهم المنجزات الإسرائيلية الأخيرة، واختلال معادلات الردع في الإقليم لمصلحة إسرائيل. حين شعرت الولايات المتحدة بمأزق إسرائيل بعد السابع من أكتوبر سارعت بإرسال أساطيلها لردع أعداء إسرائيل في الإقليم، وإعطاء الكيان تفوقاً في الردع الإقليمي. الهشاشة الإسرائيلية قادت إلى تدخّل أميركي وازن في معادلات الردع الإقليمي، وأفضت إلى حسابات معقدة بالنسبة إلى محور المقاومة، الذي صار أكثر حذراً في التعاطي مع مجريات المعركة. تكيّفت إسرائيل مع حرب طويلة وأثمان لم تكن سابقاً مستعدّة لتحمّلها، في حين لم يتمكّن المحور من تحقيق زيادة متدرجة في التكاليف والأثمان التي يدفعها الإسرائيليون والأميركيون، وكلما تقدّم الصهاينة خطوة ودفعوا ثمناً محتملاً، انتقلوا للخطوة التالية على سلّم التصعيد، وهم مؤخراً صعدوا بشكل أسرع من المعتاد، رغبة في إيجاد معادلات ردع جديدة في الإقليم، تجعلهم القوة المهيمنة عليه.
هذا يعني أن الإسرائيليين والأميركيين ليسوا في وارد البحث عن تسويات، وكل ما تقوم به الإدارة الأميركية من مفاوضات كان ولا زال يهدف إلى إعطاء الإسرائيليين مزيداً من الوقت لإتمام المهمة في غزة والإقليم. لقد وجد المحور نفسه أمام خيارات صعبة، خاصة أنه لا يريد حرباً شاملة تلحق خسائر كبيرة بأطرافه، ولكن كلفة عدم التصعيد، والثبات عند سقف معين في المواجهة، كانا خسائر ضخمة بالفعل. بدا أن طهران أيقنت أن المزيد من الصبر الإستراتيجي قد يقود إلى هزيمة إستراتيجية، وعليه، كان الرد الإيراني بالهجوم على إسرائيل محاولةً لضرب العمل الإسرائيلي على إنشاء معادلة ردع تحمل تفوقاً إسرائيلياً، كما أنه أضر سريعاً بصورة النصر التي تغنى بها نتنياهو في الضاحية الجنوبية لبيروت، وكان الفشل الاستخباري الإسرائيلي في توقع الضربة الصاروخية تذكيراً بالفشل الاستخباري يوم 7 أكتوبر، بعد نشوة المنجزات الاستخباراتية في الضاحية.
تعمل إسرائيل على الاستفراد بكل جبهة من جبهات المحور، والتركيز عليها، قبل الانتقال إلى التي تليها، كما تعمل على تحديد أهداف بسقف معين، ثم تقوم برفع السقف حين تجد القدرة على ذلك، كما هو الحال في المناورة البرية في جنوب لبنان، فهي تتحدث عن القرى الأمامية، لكنها لن تمانع التدحرج وصولاً إلى ما بعد نهر الأولي، بل وحتى بيروت، وقد كانت طلبات الإخلاء تتحدث عن نهر الأولي لا الليطاني. في هذه الحالة، يبدو خيار المحور المنطقي هو مقابلة الجنون بالجنون، عبر المزيد من تفعيل وحدة الساحات، والخروج من حالة رد الفعل إلى المبادرة بتحدي الهيمنة الإسرائيلية على سلم التصعيد، وتوجيه ضربات ذات كُلف عالية إلى إسرائيل بشكل مستمر غير منقطع، بما يؤدي إلى إقناع الراعي الرسمي للجنون الإسرائيلي بضرورة إيقافه والانتقال إلى تسوية على كل الجبهات. لقد ظهر جلياً كيف تتصرف إسرائيل في حالة عدم دفعها أثماناً عالية في المدة بين نهاية تموز/ يوليو ونهاية أيلول/ سبتمبر، وهي ستظل تحاول تحمُّل أثمانٍ أعلى، لكن قدرتها على التحمّل ستتأثّر مع الوقت، والخسارة الإستراتيجية في نهاية المعركة ستؤثّر عليها بشدة.
هذه معركة طويلة، وتدحرجها نحو حرب شاملة سيؤدّي إلى أضرار جسيمة، لكن إسرائيل لا تمنح الوقت حتى للحزن على فراق الأحبة، وهي تريد أن يكون مستقبل المنطقة تحت سطوتها، ما يقلّص قائمة الخيارات إلى خيار واحد.
* كاتب عربي