لا يستطيع أحد التهوين من حجم الخسارة التي مُنيت بها جبهة المقاومة العربية باستشهاد السيد حسن نصر الله. الجميع يتألم، وهناك شعورٌ عام بأنّ إكمال المسيرة من دون توجيهات سيّد المقاومة وخطاباته وعباراته وعمامته وابتسامته وروحه التي كانت تحاوط كل محبيه وترافقهم أينما كانوا، هو أمرٌ عسير وفوق الطاقة، خصوصاً لدى الجيل الذي تشكل وعيه النضالي مع الحرب ضد "إسرائيل"، وصولاً إلى تحرير جنوب لبنان في ربيع عام 2000.
الدُموع التي يذرفها الملايين على حُسين هذا الزمان وساقي عطاشى فلسطين، ليست حزناً على الفقيد بقدر ما هي حزن على حالهم من بعده، وهم الذين اعتادوا وجود هذا الوتد الصلب، راسخ العقيدة، رقيق الفؤاد.. بغيابه يشعرون أنهم سيضلّون الطريق، وكيف لا؟، وقد غابت شمسهم، وانزوى القمر. تلك العواطف، بذاتها، لا مأخذ عليها، بل هي دليل المحبة، وعناوين تشير إلى حياة القلوب، وصواب المقاصد؛ ولكن المهم أن تُترجم هذه المشاعر إلى طاقة تدفع المحبين إلى إكمال المسيرة، لا التراجع عنها ولو سنتيمتراً واحداً.
لقد منحنا السيّد حسن النصرَ في جنوب لبنان بتطهيره من دنس قوات الاحتلال، وفي مناطق شمال فلسطين المحتلة بتهجير المستوطنين منها، وفي سوريا بإجهاض مشاريع المتطرفين من وكلاء واشنطن و"تل أبيب"، وفي كل بقعة من بقاع محور المقاومة كانت له البصمة الأوضح. ثم، منحنا النصر مجدداً باستشهاده، لأنه ضرب بمجمل حياته المثال الذي كانت تحتاجه تلك الأمة لكي تستنهض كل ما لديها من قوة، وتخوض معركتها بثبات ووحدة ضد عدوها، ومنحنا النصر أيضاً باستشهاده لأننا بذلك نضمن أن يبقى حياً معنا "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ...".
أمثال نصر الله لا يمكن تعويضهم بسهولة، وفي مصر لدى معسكر المقاومة تجربة قاسية في هذا الميدان، فما إن فقدت القاهرة جمال عبد الناصر في أيلول/سبتمبر 1970، حتى فقدت معه روحها، ولم تستردها بعد حتى الساعة، وترك ناصر خلفه فراغاً ظلّ عصياً على الامتلاء حتى اليوم. والسيّد حسن مثل عبد الناصر في استثنائيته، وفي مواهبه الشخصية التي يندر تكرارها، لكنْ عزاؤنا أن حزب الله ومن خلفه محور الممانعة، لا يزال منتصب القامة، والرحم تلد القادة، والنهج واضح، والدرب مُحدّد الملامح، ومُحصنٌ ببركة الشهداء وطهارة دمائهم.
لم يحظَ السيد حسن بحب جمهور المقاومة أو الطامحين لتحرير الأرض المحتلة فقط، بل تمتع طوال حياته بمحبة الفقراء من كل حدب وصوب، وهو الذي قاد حزب الله 32 عاماً، لم ينسَ يوماً أنه المولود في أحد الأحياء الفقيرة شرق بيروت، حيث كان والده يملك محل بقالة صغيراً، كما لم تفارقه مطلقاً التجارب التي شكّلت وعيه، إذ اختبر في بواكير شبابه ويلات الحرب الأهلية، وأدرك حينها أن السلاح يجب أن يصوّب تجاه أعداء الخارج، الذين لم يفوّتوا فرصة لبث السموم.
وما كان من الشاب الذي درس علوم الدين في النجف الأشرف، إلا أن يلتحم وجدانياً بالثورة الإيرانية التي انتصرت في عام 1979، فدعت فوراً إلى تحرير فلسطين، وأعلنت عداءها للهيمنة الغربية، ثم دعمت الحركة الوليدة التي أصبحت لاحقاً حزب الله، والتي تشكّلت بالأساس بهدف التصدي للغزو الإسرائيلي الذي توغل في عموم لبنان عام 1982، وفي كل تلك المراحل كان إلى جواره صديقه الذي يكبره بثمانية أعوام، عباس الموسوي، والذي سبقه إلى منصب الأمين العام للحزب، كما سبقه أيضاً إلى الشهادة في شباط/فبراير 1992
من تحرير الجنوب حتى الاستشهاد
في عام 2000، أعلنت حكومة الاحتلال أنها ستنسحب بالكامل من لبنان، منهيةً احتلالها للمناطق الجنوبية من البلاد. احتفل الجمهور العربي بهذا الحدث، وعدّته المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله انتصاراً كبيراً، إذ كانت تلك هي المرة الأولى التي يتم فيها إجبار "إسرائيل" على الانسحاب بشكل أحادي من أراض عربية من دون اتفاق سلام، لذا كان من المنطقي أن يعدّ القطاع الأكبر من المواطنين العرب ما جرى إنجازاً هاماً في تاريخ الصراع العربي- الصهيوني.
يومها، كانت صور الأمين العام لحزب الله موجودة في كل منزل عربي، ومع حرب عام 2006، ازدادت شعبية السيّد حسن أكثر فأكثر، إذ أجمعت الجماهير حينها أنها بصدد الرمز الأخير الذي يقف منتصب القامة في وجه "إسرائيل"، ليخوض معها حرباً على مدار 33 يوماً، تنتهي بانسحاب قوات الاحتلال من الأماكن المحدودة التي دخلت إليها في جنوب لبنان، مع إرغام قادة الاحتلال على الاعتراف بالإخفاق، ما أدى إلى استقالة وزير الحرب ورئيس الأركان وعدة ضباط في "الجيش" الإسرائيلي.
ذلك هو الدرب الذي اختاره السيّد حسن حتى استشهاده على طريق القدس، لم تتخلّف قوات المقاومة اللبنانية تحت قيادته ساعة عن تقديم الدعم والإسناد إلى فصائل المقاومة في غزة بعد عملية "طوفان الأقصى"، لقد خاض حزب الله المعركة ضد "إسرائيل" على مدار العام الفائت باعتبارها معركته، واحتضن كل فلسطيني رفع السلاح في وجه "جيش" الاحتلال، وهذا هو ما دفع رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، إلى التصريح بأن عملية الاغتيال كانت حتمية لتحقيق أهداف "إسرائيل"، وأنها رسالة لقادة المقاومة الفلسطينية لتحرير الأسرى الإسرائيليين.
عملية الاغتيال أميركية بالأساس، فالقنابل الخارقة للتحصينات، والتي تزن الواحدة منها طناً تم صنعها في الولايات المتحدة الأميركية، والقرار تم اتخاذه من مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وما إن تم إعلان خبر الاستشهاد، حتى أعلن جو بايدن وكامالا هاريس ودونالد ترمب دعمهم للجريمة الإسرائيلية، بما يعني أن البيت الأبيض بقادته الحاليين والمحتملين جنباً إلى جنب مع الحكومة اليمينية التي تقود "إسرائيل" يجب أن يكونوا هدفاً مباشراً لكل عمليات الثأر القادمة.
لنواصل المسير.. لننتصر له
واظب السيّد حسن على وصف "إسرائيل" بأنها أوهن من بيت العنكبوت، والحقيقة أنها لولا الدعم الأميركي والغربي بشكل عام لما كانت لتصمد على مدار العام المنصرم، وهي تتلقى الضربات من مختلف ساحات محور المقاومة، اليوم يتوهّم نتنياهو أنه قد انتصر لكيانه بعد استشهاد السيد حسن، ويزعم أن "إسرائيل أثبتت قوتها وأنها من فولاذ". مُهمة كل محبّ لنصر الله اليوم أن يثبت للإسرائيليين ضعف كيانهم، ويؤكد للعالم أجمع أن الكيان الصهيوني، رغم سلاحه المتقدّم ووحشية عقيدة قادته، فإن زواله مسألة وقت، وستلفظه المنطقة، كما يلفظ الجسد أي مُكوّن غريب عليهالانتصار للسيّد نصر الله يكون عبر التشبث بخيار المقاومة أكثر، ودفع الجماهير إلى الالتفاف حول حركات المقاومة داخل فلسطين وخارجها، والإيمان بأنّ تحرير الأقصى سيحدث عاجلاً كان أم آجلاً. ويمكن للجميع أن يساهم في ذلك العمل، حتى لو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي ينخفض معدل التحكم الأميركي بها، أما روح اليأس التي بدأت تخيّم على نفوس البعض فلا محل لها من الإعراب اليوم.
تسعى "تل أبيب" للقضاء على الروح المعنوية لجمهور المقاومة، وهي تريد تصوير نفسها اليوم "الأسطورة العسكرية" التي لا يمكن لأي طرف ردعها، بينما الحقيقة أن المقاومة الفلسطينية تغلّبت عليها في السابع من أكتوبر العام الماضي، وباحتساب النقاط في الحرب السجاليّة التي دارت منذ "طوفان الأقصى"، فقد كان محور المقاومة منتصراً حتى استشهاد السيّد حسن، ولا بدّ أن الردّ الذي يجهزه محور المقاومة، قادم لا محالة، ليجعل الهزيمة مرة أخرى من نصيب "تل أبيب".