خلال الغزوات التي شنّها المغول في القرن الثاني عشر الميلادي، استخدم جنكيز خان تكتيكات تجعل جيشه يبدو أكبر عدداً مما هو عليه في الواقع. فخلال العمليات الليلية، كان القادة يأمرون جنودهم بإشعال العديد من المشاعل لتضليل خصومهم وإعطاء وهم بأنهم جيش ساحق وكثيف العدد، وفي مرّات أخرى كان يتمّ ربط أشياء أكثر كثافة بذيول خيوله، ليثير الجواد عند الركض سحابة أكبر من الغبار، فيتصوّر العدو أن أعداد الفرسان هي بالضرورة أكثر.
وعند احتدام القتال، كان جنود جنكيز خان يطلقون سهاماً تمّ إعدادها مسبقاً لتُصدر صفيراً أثناء طيرانها في الهواء، مما يُحدث ضوضاء مرعبة، أما التكتيك الأهم الذي تمّ اعتماده حينها فهو إلقاء رؤوس بشرية مقطوعة فوق أسوار المدينة لتخويف السكان ونشر الأمراض المُعدية في المناطق المغلقة داخل المدينة المحاصرة. وهذا بالضبط ما يعتمده "جيش" الاحتلال اليوم عندما يقوم بتكثيف عملياته الوحشية ضد أبناء غزة، غير عابئ بكلّ الإدانات الدولية الرافضة للمجازر المستمرة منذ 11 شهراً على الأقل.
لا تُعدّ حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية استثناءً في هذا المسار الدموي، فالإدارات الإسرائيلية السالفة كافة اعتمدت آليات لكبح جماح المقاومة العربية للمشروع الصهيوني، وإرهاب أي فصيل يقوم برفع السلاح في وجه الاحتلال، كان على رأسها التخويف عبر "تشديد العقاب" بحيث يُجبر المُقاوم على مراجعة ذاته مرات ومرات قبل الشروع في تنفيذ عملياته اللاحقة. لكن أزمة "تل أبيب" الحقيقة أن هذا الأمر لم يُفلح حتى الآن، ولا تزال التربة الفلسطينية خصبة، وقادرة على احتضان حركات المقاومة التي تعي المخططات الإسرائيلية، وتتمكّن من إفسادها.
مع انطلاق الجولة الحالية من الصراع بين الغزاة الإسرائيليين وأصحاب الأرض من الفلسطينيين، كان إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش يدفعان قادة الاحتلال العسكريّين، عن عمدٍ أو من دونه، لاعتماد آليات الحرب النفسية التي التزم بها الجيش الأميركي عند غزوه العراق في آذار/مارس 2003، إذ اعتمد الأميركيون حينها آليات مدروسة بعناية مسبقاً لإحداث حالة من الصدمة والرعب لتشويه الجيش العراقي نفسياً وكسر إرادة القتال لديه، وكان الهدف النهائي، وفقاً لتلك العقيدة العسكرية، تحقيق الهيمنة السريعة على الخصم، عبر استخدام القوة المفرطة مضافاً إليها العرض المذهل للإمكانات العسكرية لهزيمة الروح المعنوية للعدو قبل التغلّب عليه ميدانياً.
لا تتكامل "تل أبيب" وواشنطن عسكرياً أو اقتصادياً فقط، بل تتكاملان أيضاً على المستوى النظري، وهذا ما يكشفه حجم التزام القوات الإسرائيلية داخل قطاع غزة، بالأفكار التي نشرها العسكريّان الأميركيان هارلان كينيث أولمان وجيمس بول ويد عام 1996، وتتعلّق بتكتيكات الحرب النفسية، وتحمل عنوان "الصدمة والرعب".
فوفقاً لأولمان وويد، يكون الانتصار العسكري مشروطاً بالقدرة السريعة على إحداث شلل للخصم عبر السيطرة على بيئته والتأثير على وعيه وإدراكه لما يجري خلال الحرب، ولا يكون ذلك ممكناً سوى عبر صدْمه عسكرياً، وإبهاره بالمستوى الفائق من التسليح، وعدم وجود سقف لما يمكن ارتكابه من "جرائم حربية" إذا استدعى الأمر ذلك!
تلك النظريات العسكرية، التي لا تتورّع عن منح الغزاة "الحقّ في ارتكاب المجازر" طالما أثمرت انتصاراً ميدانياً نافذاً وعاجلاً، لم تُخفِ يوماً إعجابها بقرار الرئيس الأميركي هاري ترومان إلقاء القنبلتين الذريتين الأكثر شهرة في العالم فوق رؤوس ساكني مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في آب/أغسطس 1946، ممّا أسفر عن مقتل قرابة الربع مليون إنسان.. لكن لماذا كلّ هذا الإعجاب؟، لأنّ إلقاء هاتين القنبلتين عجّل سقوط قوات المحور في شرق آسيا، وأجبر اليابان على الاستسلام، ومنح واشنطن نوعاً من "الفرادة العسكرية"، ما مكّنها من الهيمنة السياسية والاقتصادية على مقدّرات العالم لعقودٍ تالية.
على مدار العقود الماضية ارتكبت "إسرائيل" مئات المجازر بحقّ الفلسطينيين، لا يستهدف الجندي الإسرائيلي جسد الفلسطيني فقط، أو بالأحرى هو لا يريد تحييد فلسطيني واحد أو عدة أشخاص ومنعهم من المطالبة بأرضهم وأرض أجدادهم اليوم أو لاحقاً، بل الهدف الأساسي لهذا النوع من العمليات العسكرية التي تُطلق النار بكثافة وبقدرٍ مُفرط من البغضاء والكراهية، هو الروح المعنوية لعموم الفلسطينيين، وإجبارهم على الرضوخ لشروط الاحتلال أو اليأس وترك الأراضي لساكنيها الجدد من المستوطنين اليهود.
خلال الشهور المنصرمة، روّج قادة الاحتلال لمشروعهم الرامي إلى تهجير أبناء قطاع غزة إلى المناطق المجاورة، فجاجة الطرح أثارت استياء الجميع، بما يشمل الأنظمة العربية التي تملك تاريخاً من التطبيع والعلاقات الدبلوماسية مع "تل أبيب". تراجع نتنياهو عن المشروع مجبراً بسبب الرفض الفلسطيني الداخلي ونتيجة لاعتراض الدول العربية، لكنّ النوايا الصهيونية لا تزال مُبيّتة، وعملية التدمير الجارية على قدمٍ وساق لكلّ مقوّمات الحياة داخل قطاع غزة، إنما في الواقع تستهدف دفع الفلسطينيين للفرار بأرواحهم من هذا القطاع البائس، وبالتالي تحقّق الصهيونية رؤيتها حول "فلسطين بلا شعب"!
بمتابعة مقالات الرأي التي ينشرها قادة اليمين الإسرائيلي المتطرف، في أحزاب "الليكود" و"شاس" و"الصهيونية الدينية" و"حزب يهودت هتوراه"، وبرصد المعدّلات المتزايدة لما ترتكبه قوات الاحتلال من عمليات هدم ومجازر داخل قطاع غزة، يمكن إجمال أهداف نتنياهو في النقاط الآتية:
أولاً: إشاعة حالة من اليأس والكآبة لدى الفلسطينيين، علماً بأنّ ما ينطبق على أبناء غزة، ينطبق بصورة أو أخرى على الفلسطينيين من أهالي الضفة الغربية، خاصة مع مواصلة "إسرائيل" عملياتها العسكرية الواسعة شمالي الضفة، ووقوع المزيد من التدمير في الممتلكات والبنى التحتية إلى جانب عمليات النزوح القسري لسكان المخيمات.
ثانياً: تأليب وتحريض الرأي العام العربي على المقاومة، إذ يتمّ اتهام قادة الفصائل الفلسطينية بالمسؤولية عمّا يحصل من عمليات تدمير للمدارس والمشافي والجامعات والمساجد، وعوضاً عن إلقاء اللوم على الطرف الإسرائيلي باعتباره هو الجاني الحقيقي، والسبب المباشر في إفساد حياة الفلسطينيين، يصبح المناضل الفلسطيني هو المتهم لأنّ عملياته هي التي أثارت غضب "الوحش الإسرائيلي"، ودفعته لارتكاب جرائمه.
ثالثاً: محاولة التأثير على وعي الأجيال العربية الناشئة، والتشكيك في إمكانية تحرير كامل التراب الفلسطيني، وذلك تتعمّده "اسرائيل" عبر تكثيف جرائمها اللاإنسانية، واستعراض المعدّات العسكرية فائقة التطوّر، والتي أدّت الولايات المتحدة الدور الرئيسي في تقديمها إلى "جيش" الاحتلال على مدار سنوات طويلة.
رابعاً: يسعى الاحتلال من خلال عمليات الإعدام الجماعي والقضاء على أيّ فرصة للعيش بصورة طبيعية، إلى إجبار جميع أبناء الشعب الفلسطيني على النزوح مرحلياً، ثم تدبير أي وسيلة ممكنة للهروب من الأراضي الفلسطينية، وهذا ينسجم مع المخططات الصهيونية منذ أزمنة بعيدة. فموشي ديان، العسكري الإسرائيلي البارز، كان يرى أن "الجيش" لن يكون يوماً قادراً على إنهاء حياة جميع الفلسطينيين، لكنه سيحاول دوماً أن يجعل حياتهم جحيماً بالقدر الذي يجبرهم على الانصياع لإرادة الاحتلال أو ترك الأرض والهجرة للخارج.
سُبل مواجهة المخططات الإسرائيلية
إجهاض المشاريع الصهيونية الرامية لصرف الجمهور العربي عن النضال ضد الاحتلال، يتلخّص في التحلّي بالإيمان اللازم لدعم كلّ ما من شأنه تقوية شوكة حركات المقاومة، سواء عبر تقديم الدعم المباشر، أو عبر إعلان التأييد من خلال الوسائل الإعلامية الممكنة كافة، وهي إحدى أبرز صور تقديم الدعم غير المباشر، وتُمثّل أفضل وأبسط الطرق التي يمكن للعربي خارج فلسطين دعم قضيته المركزية بواسطتها، وتوجيه صفعة لمهندسي الحرب النفسية الإسرائيلية.
اليقين بأنّ "إسرائيل" إلى زوال، هو الدرس الأهم الذي يجب أن تتعلّمه الأجيال العربية الناشئة، فالكيان الصهيوني يعي أنه جسم غريب عن المنطقة، وبالتالي سيتمّ لفظه منها عاجلاً أم آجلاً، وبهدف ذلك سعت حكومات الاحتلال طوال الفترات الماضية، لانتزاع الاعتراف من العواصم العربية، والركض بهدف عقد علاقات سياسية معها، إلا أن ذلك لم يغيّر شيئاً بالنسبة للشعوب، وظلّ الرفض لوجود "إسرائيل" قائماً.
وتحاول حكومات الاحتلال المتتالية عبر ارتكاب مزيد من الجرائم، والاستعراضات العسكرية، إيهام الشعب العربي أنّ لديها احتياطياً وافراً من القوة يجعلها موجودة ومستمرة بحكم الأمر الواقع، وأن هزيمتها أمر أقرب للاستحالة، بيد أنّ استمرار المقاومة وتنامي حضورها على مستوى الإقليم والدعم الشعبي المتزايد لها، جميعها أمور تؤكد تهاوي الادعاءات الإسرائيلية، وأنها من دون الدعم الأميركي المباشر لا تستطيع أن تصمد أمام الصواريخ والمُسيّرات التي تلاحقها من قطاع غزة وجنوب لبنان واليمن والعراق... وطهران.
*كاتب مصري