لا شيء يضمن عدم تكرار حادثة ماهر الجازي في أكثر من مناسبة، وبنسخ متنوعة ومختلفة، وليس هناك ما يمكن أن ينفّس الاحتقان الأردني إلا المبادرة الرسمية في موقف أكثر جرأة من الحرب الدائرة في غزة.
منذ الرد الإيراني في ليلة الرابع عشر من نيسان، واعتراض عدد من المسيّرات الإيرانية في الأجواء الأردنية، يتعرض الأردنيون لحملة غير مسبوقة من الذمّ والانتقاص على مساحات ليست قليلة من وسائل التواصل الاجتماعي.
ينطلق شقّ كبير في هذا الانتقاص من الخلط الانفعالي غير المتّزن بين تراخي الموقف الحكومي (عدم إغلاق سفارة كيان الاحتلال وعدم فسخ اتفاقية وادي عربة) والموقف الشعبي الذي لم يتراجع عن موقعه التاريخي والعضوي في القضية الفلسطينية (ولا أقول التضامن معها، لأن ذلك هو الانتقاص من موقع الأردنيين في معادلة الصراع).
تأتي عملية ماهر الجازي لتقلب الطاولة على حملات التأليب ضد الأردنيين، وعلى كل المحاولات للانتقاص من دورهم الذي يؤدونه في ملعب ضيّق ترسم حدوده محددات داخلية صارمة ترافقها ضغوط أميركية ثقيلة.
ثمّة قاعدة سياسية منطقية تقول إن المناطق التي تضعف فيها سلطة الدولة المركزية، يسهل أن تتطور فيها المقاومة الشعبية وتتسلح وتنظم نفسها بقوة. التمعّن جيداً في هذه الفرضية يفسّر لنا موضوعياً أحد أسباب انتعاش وتطور المقاومة في محطات زمنية محددة في لبنان واليمن والعراق مثلاً، في مقابل صعوبة نموّها وتطورها في الأردن.
طبعاً، هذا لا ينتقص أبداً من حجم المعاناة والكدّ والتعب والتضحيات التي قدّمتها المقاومة في هذه البلدان لكي تصل إلى ما وصلت إليه من قوة السند الأولى لغزّة، ولكنه يفسّر (بعيداً عن التفكير الرغائبي) عدم نموّها وتطورها في الأردن.
ومع كلّ تلك المعطيات والمحدّدات، تجد ماهر الجازي يطلّ برأسه ويشهر مسدسه!
حضور الدولة ومؤسساتها وأجهزتها الأمنية في الأردن واسع (من دون تناسي الانسحاب من الدور الاقتصادي من جهة، ومن دون إنكار الانعكاس الإيجابي على جوانب معينة في الحياة اليومية للناس من جهة أخرى). هذا الحضور هو الذي يجعل طبيعة الموقف الشعبي الأردني تقف على ثلاثية لا مناص ولا بديل منها ضمن شروط المرحلة:
1. ضرورة استمرار الاحتجاجات الشعبية بمختلف أشكالها وابتكاراتها لإحداث إزاحة قوية في الموقف الرسمي، ليتضمن موقفاً سياسياً، وحتى أمنياً، أكثر حزماً ضد "إسرائيل".
2. استمرار عمل الهيئات السياسية والثقافية الأردنية بمبدأ "حرب المواقع"، من ذلك على سبيل المثال هيئات المقاطعة التي أوجعت الشركات الأميركية المتعاونة مع الاحتلال (والجدير بالذكر هنا ما سمعته من عدد من الموظفين العاملين في الشركات الأميركية، عندما قالوا: "الأردن كسر ظهر الشركة").
3. لا شيء يضمن عدم تكرار حادثة الجازي في أكثر من مناسبة، وبنسخ متنوعة ومختلفة، وليس هناك ما يمكن أن ينفّس الاحتقان الأردني إلا المبادرة الرسمية في موقف أكثر جرأة من الحرب الدائرة، وإحداث إزاحة ملموسة ومؤثرة تقلل الفجوة بين الموقف الرسمي والموقف الشعبي على الأقل.
تداولت وسائل التواصل ربطاً تاريخياً ومكانياً للعملية البطولية التي نفّذها ماهر الجازي، فالكرامة هي مكان ترتبط به ذاكرة جمعية أردنية، وهي أيضاً مبدأ أساسي في الاحتجاجات الشعبية الأردنية، سواء في ما يتعلق بمطالبات داخلية اقتصادية أو سياسية عامّة:
1. حدثت العملية على مقربة من موقع معركة الكرامة عام 1968م. حينها، كانت رسالة الإسرائيلي واضحة قبل الدخول: "نريد رأس الفدائي الفلسطيني. سنقطفه ونخرج.
لا داعي لأن يتدخل الجيش الأردني"، ولكن قرار القائد العسكري الأردني مشهور الجازي سار عكس اتجاه الخطة الإسرائيلية، وأمر بتحرك قطاعات الجيش الأردني، ليلتحم الجندي الأردني بالفدائي بالمُزارع في التصدي لدبابات الاحتلال وهزيمتها. حدّثني أحد العاملين في سلاح المدفعية المشاركين في تلك المعركة عن تلك اللحظة، قائلاً: "لم يكن ممكناً أبداً أن نقف متفرجين فيما إخواننا الفلسطينيون يقتلون".
2. في المعركة نفسها عام 1968م، وفي صورة مناظرة لعملية ماهر الجازي، طلب خضر شكري (ابن معان من أصول أرمنية) من المدفعية الأردنية قصف موقعه الذي وجد فيه صيداً ثميناً لعدد من جنود الاحتلال وآلياته: "الهدف موقعي. ارمِ. ارمِ. انتهى".
بقيت كرامة الأردنيين (المكان والمبدأ) في موقعها ومعناها، كما هي.
- كأي بلد عربي، عانى الأردن اللعب على تناقضات الهويات الفرعية، فنمت تيارات سياسية على أكتاف التفريق بين الـ"شرق أردني" و"الأردني من أصول فلسطينية"، وتغذّت مشاريع شخصية على ظهر هذا "التناقض". تيار "الحقوق المنقوصة للفلسطينيين" وتيار تأصيل "من هو الأردني؟".
عندما قال التيار العقلاني إن المعارك الكبرى كفيلة بتذويب التشوّهات السطحية الطارئة، اعتبر البعض أن ذلك حديث شاعري رغائبي حالم لا مكان له في وحل السياسة والواقع، ولكن ابن معان، الجازي، أثبت مجدداً أن شروط اللعبة لن تتحرك إلى ضمن الشروط التاريخية التي لا تنفكّ، والتي جمعت الأردنيين والفلسطينيين في جسد إداري واحد عقوداً من الزمن.
- يحاول كتاب التدخل السريع في مناسبات كهذه منع أي فرصة للتقارب الأردني مع محور المقاومة، ويريدون دائماً الفصل المتعسّف في المبدأ بين صواريخ حزب الله من جنوب لبنان ورصاصات الشهيد الجازي، ولكنّ المزاج الأردني العام يدرك اليوم أكثر أن الطريق إلى القدس يمرّ عبر التقارب الضروري مع محور المقاومة (وفي مقدمة ذلك تجاوز مفاعيل الدعاية التحريضية ضد إيران).
منذ أن جعل نتنياهو "ضم الأغوار وشمال البحر الميت" دعاية له في انتخابات 2019 في "إسرائيل"، وبعدما وضع سموتريتش خريطة الأردن كجزء من الخريطة التي يطمح لها، لا يمكن لهواجس الأردنيين أن تتوقف عند حدود الوطن البديل والتهجير (على أهمية هذه الملفات طبعاً)، وهذه هي ببساطة اللحظة التي يحتاج فيها الأردن إلى تفكيك شبكة التحالفات التاريخية التي باتت عبئاً عليه وعلى الفلسطينيين!