خلف الضجيج الممل عن "الصفقة"، وتحت سحب الدخان الكثيف التي تخيّم فوق غرف التفاوض في القاهرة والدوحة، تنبعث رائحة سيناريو لإدارة الحرب الإسرائيلية على غزة يزداد ترجيحاً مع مرور الأيام، وأعني به سيناريو "الاحتلال المستدام" أو "الاحتلال طويل المدى" للقطاع المنكوب، وثمة ما يشير إلى أرجحية هذا السيناريو في السياسة كما في الميدان: في السياسة كما تتبدى في لعبة التفاوض العبثي، وشروط نتنياهو التي لا تنتهي، وفي الميدان، حيث تعد "إسرائيل" العدة لبقاء مستدام، أو طويل الأجل في قطاع غزة أو في أجزاء استراتيجية منه.
في السياسة، ليست لعبة المفاوضات العبثية التي يخوضها نتنياهو مع حماس والوسطاء، مدعّماً بموقف أميركي لا يني يتكيف مع شروطه الطارئة والتعجيزية التي تقفز فوق أسطح موائد الوسطاء، سوى وسيلة لشراء الوقت والمزيد منه، وأداة فاعلة للاستخدام لتضليل الرأي العام الدولي، وتخدير معارضيه في الداخل، وتبديد الضغوط التي يتعرض لها. وقد نجح حتى الآن في إدارتها بقدر كبير من التفوق على الأخصام والمناوئين.
الرجل لم يُخفِ حقيقة نياته ومراميه. نحن من كنّا نظن أنها لعبة "رفع السقوف" وأداة تفاوضية معروفة في عالم الوساطة وفض النزاعات والحروب، لكن ما يتضح تماماً بعدم شارفت هذه الحرب/المذبحة على إتمام عامها الأول، أن الرجل كان جاداً في ما يقول، وأن جديته تتعزز بمكاسب الميدان الغزّي من جهة، وهزال المواقف الرسمية الفلسطينية والعربية والإسلامية من جهة ثانية، وتواطؤ الغرب وشراكته له في جرائمه من جهة ثالثة.
والرجل في ما يخطط له ويفكر فيه، يجد نفسه مدعوماً بتيار عريض من الساسة و"الرأي العام" في "إسرائيل"، وأسهمه في ارتفاع بعد انهيارات متلاحقة. وكلما أوغل في التطرف واستباحة الدماء والسيادة في الضفة والقطاع، وصولاً إلى جنوب بيروت وشمال طهران والحديدة، ارتفعت "شعبيته" في أوساط مجتمع لم يتوقف عن الانزياح المنهجي والمنظم صوب التطرف الديني والقومي منذ ربع قرن على أقل تقدير.
وفي الميدان، يمكن ملاحظة حجم وطبيعة "البنى التحتية" التي يعمل "الجيش" الإسرائيلي، بالضد من إرادته، واستجابة لـ"توجيهات المستوى السياسي"، من أبراج محصنة ونقاط ثابتة في التقاطعات الاستراتيجية، مروراً بتعبيد ممري نيتساريم وصلاح الدين، ورغبته التي حال المستوى الأمني دون تحقيقها في عقد اجتماع لمجلس الوزراء في ممر فيلادلفيا، فضلاً عن "الحزام الأمني" الذي يطوّق به القطاع من أرجائه الثلاثة.
لا شيء يشي بأن حكومة نتنياهو تفكر في انسحاب وشيك من القطاع، ولا في إنهاء الحرب رسمياً باتفاق مع حماس، حتى إن تعيين العميد إلعاد غورين منسقاً إسرائيلياً للشؤون الإنسانية يذكّر بالمنسق الإسرائيلي للشؤون المدنية في الضفة الغربية، الذي عاود ممارسة صلاحياته كما كانت قبل أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية، وفي دلالة على أن الرجل الذي لم تنجح مساعيه في خلق قيادة عملية من شخصيات عشائرية ورجال أعمال غزيين، يسعى كما قرأ مراقبون، لتشكيل نواة إدارة للحكم العسكري/المدني الإسرائيلي لقطاع غزة، اليوم وفي اليوم التالي للحرب.
لا مطرح في قاموس نتنياهو، لا لإنهاء الحرب على غزة بتوقيت الوسطاء والمبادرات والقرارات الأممية، ولا للانسحاب الشامل منه... ولا مطرح في قاموسه لتسليم السلطة أو حماس مقاليد المعبر الوحيد لغزة مع العالم الخارجي: رفح، عملاً بتصريحه الشهير والمتكرر: "لا فتحستان ولا حماسستان"، ودون ذلك، أو دونه بكثير، يمكن للوسطاء اجتراح الخيارات والبدائل.
يقضي السيناريو الذي نتحدث عنه بإبقاء الحرب على غزة مفتوحة حتى العام المقبل على أقل تقدير، ارتباطاً بالانتخابات الأميركية ونتائجها... في غضون ذلك، سيسعى نتنياهو لخفض منسوب الحرب، وربما الإعلان من جانب واحد عن انتهائها أو انتفاء الحاجة لعمليات كبرى، والحرب انخفض منسوبها على أي حال، إلا من عمليات الاستهداف الموضعي إسرائيلياً، أو عمليات الاستنزاف الفلسطينية التي يمكن احتمالها كما يبدو، والتعامل بـ"نظام القطعة" وعقلية "المياومة" مع الاحتياجات الإنسانية من غذاء ودواء وإيواء لسكان القطاع، لتفادي المزيد من الضغوط الأميركية والدولية إن تعاظمت على وقع الكارثة الإنسانية، كما في كارثة لقاحات شلل الأطفال.
ولا يستبعد هذا السيناريو عودة النازحين (أو جزء منهم) من جنوب القطاع إلى شماله من دون اتفاق، ما دام آلاف الغزيين سيفضلون العودة إلى أنقاض مدنهم وبلداتهم ومخيماتهم بمجرد حصولهم على "الأمان"، حتى وإن تطلب الأمر اجتياز ممر نيتساريم سيئ الذكر والخضوع للتفتيش على حواجز "الجيش"، فالحياة في 25 كيلومتراً مربعاً لأكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني تبدو جحيماً لا يطاق. وفي مطلق الأحوال، ليس متوقعاً أن يعود جميع النازحين، ومن باب أولى، المقاومون والمسلحون منهم.
أسئلة هذا السيناريو
أولاً؛ هل تحتمل "إسرائيل" الاستنزاف الذي يتعرض له جيشها في غزة؟
في ظني أن تجربتنا مع هذا العدو تدفع إلى الاعتقاد بأن أمراً كهذا ممكن، ما دامت "إسرائيل" قد تحملت الاستنزاف أكثر من 18 عاماً في لبنان، قبل أن ترغم على الرحيل الكامل، إلا من بعض النقاط الحدودية، وما دامت قد تحملت مقاومات القطاع المتعاقبة، من يسارية وإسلامية، طيلة سنوات الاحتلال حتى العام 2005، تاريخ قرار فك الارتباط والانسحاب أحادي الجانب...
صحيح أن المقاومة اليوم أشد ضراوة، ولكن من قال إن سيناريو تخفيف الاحتكاك المباشر لا يمكنه التقليل من حجم الخسائر؟ على أي حال، هي قضية مفتوحة تجيب عنها قادمات الأيام وقدرة المقاومة على إدامة الاستنزاف وتصعيده بما يكفي لإقناع نتنياهو بأن كلفة الاحتلال أعلى من كلفة الجلاء.
ثانياً؛ كيف سيدار ملف الرهائن والمحتجزين؟
يستند هذا السيناريو إلى قدرة نتنياهو على احتواء ملف "عائلات الأسرى والمفقودين"، وجعل حراكهم الشعبي في أضيق نطاق، وإخفاق هذا الحراك في التحول إلى قوة ضغط كبيرة، بسبب طبيعة التحولات التي طبعت المجتمع بخاتم الفاشية والتطرف الديني والقومي.
وسيواصل نتنياهو إصدار توجيهاته، مدعوماً بكل أسباب التكنولوجيا والاستخبارات الأميركية والعالمية، للبحث عن المفقودين، وخصوصاً عن قادة حماس في أنفاقهم، وسيظل الباب مشرعاً أمام عمليات جراحية، كبيرة وصغيرة، ومع كل أسير يجري استرجاعه، كما مع كايد الفرحان، سترتفع أسهم أصحاب نظرية "تحرير الرهائن بالقوة". وفي مطلق الأحوال، فإن استمرار المفاوضات من شأنه المساهمة في تبديد وزن الكتلة المطالبة باسترجاع المحتجزين وتحريرهم.
ثالثاً؛ كيف سيتعامل نتنياهو مع معارضيه؟
الرد على هذا السؤال جاء على لسان نتنياهو نفسه، كما في التسريبات الصادرة من مكتبه: من لا يرغب من قادة الأجهزة الأمنية والدفاعية في المضي قدماً في ترجمة خطة نتنياهو والالتزام بها، فليغادر إلى بيته، "والباب بدخل جمل"، والمعلومات تتطاير عن نيات الرجل إقالة وزير دفاعه كذلك، وتبديل رئيس الأركان، الأضعف في تاريخ رؤساء الأركان الإسرائيليين، كما تقول المصادر الإسرائيلية... أما المعارضة، لبيد وغانتس، فقد ثبت بأنهما لا يمتلكان رؤية بديلة، وأنهما يكتفيان بالعزف على وتر الرهائن المشدود، وأسهم هؤلاء هبطت في بورصة الرأي العام على نحو متسارع، كما صعدت.
رابعاً؛ هل يتعارض هذا السيناريو مع استمرار المفاوضات؟
على العكس تماماً، فإن أحد متطلبات نجاح هذا السيناريو هو الاستمرار في إدارة مفاوضات عبثية، كلما انتهت فاشلة منها، تشرع الأطراف في التأسيس لجولة جديدة. للمفاوضات وظيفة في تخفيف الضغوط المحلية والخارجية وتبديدها، وهي تعطي المجتمع الدولي وأسر المحتجزين بارقة أمل بأن ثمة ضوءاً في نهاية النفق، وهو نفق طويل كما يبدو، وربما يكون أطول من أنفاق المقاومة في غزة.
خامساً؛ كيف ستتصرف واشنطن؛ حليفة "إسرائيل" وحاميتها؟
لا شك في أن واشنطن لا تريد هذا السيناريو، وزعيم إدارتها الديمقراطية وأركانها لطالما رددوا بأنهم يرفضون احتلالاً دائماً للقطاع أو بعيد المدى، لكن سياق هذه الحرب أظهر أن واشنطن تريد أشياء كثيرة، ولكن ليس كل ما تريده واشنطن تدركه، هذا هو القانون الناظم لعلاقاتها مع "إسرائيل"، إلى الحد الذي وصلنا فيه إلى المفارقة الأغرب في التاريخ: حماس تتمسك بمبادرة بايدن وتحثّ واشنطن على الالتزام بها، فيما ربيبة بايدن وطفله المدلل يطلق النار على هذه المبادرة، لتعود واشنطن إلى لوم حماس على التعطيل، وتحميل السنوار وزر التعثر في الوصول إلى اتفاق، كما صرح بذلك ديفيد كوهين، نائب مدير السي آي إيه، قبل يومين.
ليس ثمة أفق منظور يمكن أن نتخيل معه موقفاً أميركياً ضاغطاً بشدة، أو بما يكفي لكبح جماح "إسرائيل". لدى واشنطن أوراق قوية للضغط على "إسرائيل"، ولكن ليس لديها إرادة ولا مصلحة أو رغبة في استخدامها، ونتنياهو أثبت أنه يجيد إمساك الثور الأميركي من قرنيه.
سادساً؛ ماذا عن الوسطاء العرب؟ هل يقبلون بلعبة تقطيع الوقت؟
ليس لدى أي من الوسيطين العربيين "دالّة" على "إسرائيل". لا نفوذ لهما عليها ولا قدرة لهما على الضغط عليها. بمقدورهما بأقدار متفاوتة ممارسة ضغط على حماس، ولكن ليس على "إسرائيل"، وليس من مصلحة (وربما قدرة) أيٍ منهما الانسحاب من دور الوسيط، ولا أحد، بمن في ذلك حماس، يطلب إليهما الانسحاب من هذه المهمة، ولا قدرة للأطراف مجتمعه، في المدى المرئي على الأقل، على استدخال وسطاء جدد أو استبدال الوسطاء القدامى.
سابعاً؛ ما الذي يشجع نتنياهو على تفادي إنهاء الحرب رسمياً؟
موقف السلطة الفلسطينية الهزيل، هآرتس تقول إن التنسيق الأمني حافظ على مستويات مع قبل الحرب، برغم كل فظائعها.
موقف عربي عاجز ومقصر ومتخاذل، وأحياناً متآمر بالنسبة إلى بعض العواصم العربية... مجتمع دول عاجز ومنافق.
دعم أميركي غير مسبوق، برغم الخلافات الطافية على السطح بين الحكومة والإدارة. تراجع احتمالات توسع نطاق الحرب إلى مواجهة إقليمية واسعة، وحرب مفتوحة على جبهات متعددة، يمكن أن تعظم الضغوط الدولية وتستجلب حراكاً دبلوماسياً وسياسياً ضاغطاً كذاك الذي حصل عشية رد حزب الله على جريمة اغتيال الشهيد فؤاد شكر.
ثامناً؛ ما الذي سيحبط هذا السيناريو؟ وهل نجاحه أمر حتمي؟
الجواب لا بالطبع. انقلاب المشهد في الضفة وما يمكن أن يترتب عليه من تغيير في السلطة وشخوصها أو تبديل في سياساتها ومقاربتها... ثبات المقاومة في غزة ونجاحها في رفع وتائر الاستنزاف. تحرك جبهات الإسناد بما يتخطى قواعد الاشتباك والردود المحسوبة، وتبديد الانطباع بأن سيناريو "الانفجار الكبير" لم يعد قائماً.
السيناريو الأكثر ترجيحاً هو توقف الحرب من دون إيقافها رسمياً، والانتهاء إلى احتلال مستدام أو طويل الأجل سيناريو ممكن، بيد أنه ليس قدراً لا رادّ له، فما زال في الوقت متسع لمراجعة المقاربات، وتغيير اتجاه تطور الأحداث، وإلا فالطامّة الكبرى.