أخطانا في فهم العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة، أو أننا كنا ننجرّ إلى تفسير رغائبي في لحظة ضعف أصبحت سمة الحالة العربية التي لم يعد لديها مشروع عربي منذ أن حطمت بيدها مشاريعها التي كادت تصنع حالة بين العرب.
فجمال عبد الناصر جرت محاربته عربياً لحظة أطل على العرب، ولحقه صدام حسين وكلاهما تكفلت به نفس الأداة العربية، ولم يبق سوى مشاريع إقليمية لدول غير عربية تحاول تقاسم ما تستطيع من دول تتشتت بين إيران وإسرائيل وتركيا وهذا قد يحتاج إلى قراءة.
لم يجتهد كثير من الباحثين في التعمّق بين علاقة التوأمين، ولم يأخذ كثير من السياسيين بما قاله القليل منهم، لأن في ذلك ما يكلف سياسيي المنطقة أكثر من طاقتهم، فاستكانوا لوَهَم أن الولايات المتحدة يمكن أن تكون وسيطاً نزيها بين أي طرف عربي وبين اسرائيل، وتلك عملت على تخدير الفعل العربي، وأدت إلى مزيد من الاستعصاءات في المنطقة، والنتيجة مشاغلة العرب حتى تصبح إسرائيل أقوى وتعتمد على نفسها وتصنع قوة طاغية تخيف العرب، فيأتون متسوّلين أو متوسّلين التطبيع معها.
هذا ما حصل، فالتجربة الفلسطينية في مفاوضات التسوية التي احتكرت الولايات المتحدة وساطتها ومنعت أي طرف دولي من التدخل استمرت لعقود إلى أن حصلت إسرائيل على ما تحتاجه من الوقت لتتمكن من صنع حقائقها على الأرض، ولم يبق ما يمكن التفاوض عليه. هذا هو مركز المشروع الإسرائيلي الذي تم بغطاء أميركي شامل ولا عزاء للفلسطينيين.
لا يكفي التفسير الذي ساد طويلاً في المنطقة الذي روّجه اليسار بما يتلاءم مع مفاهيمه الأيدلوجية وتفسيره الاقتصادي للتاريخ لفهم طبيعة العلاقة، فهناك ما هو أبعد بكثير. فالعلاقة تذهب حد التطابق في التكوين والولادة، حيث كلاهما تأسستا على طرد الشعب الأصلي واستخدمتا نفس النصوص التوراتية في تبرير الاستيلاء على أراضي الغير، وعملت الولايات المتحدة على شرعنة ما فعلته بنظريات تبريرية على نمط نظرية المنفعة، والتي تقوم على أن الأَولى بالأرض هو القادر على استثمارها واستغلالها، لتجد الولايات المتحدة إسرائيل صورة لمرآتها الثقافية والروحية.
ترى الولايات المتحدة أن إسرائيل تنتمي للعالم الغربي الذي أعادت صناعته بعد هيمنتها على العالم، وترى بإسرائيل دولة غربية ديمقراطية قامت على مفاهيم حضارية، ودولة قانون وتداول سلطة، ودولة منتجة تستطيع الاعتماد على ذاتها كما قال كيسنجر لمحمد حسنين هيكل، لكنها في نفس الوقت ترى بالدول العربية مجموعة تجمعات بدائية ونُظُم دكتاتورية ودول فاشلة، لا تستطيع الاعتماد على ذاتها ومتناحرة داخلياً، ومجتمعات ممزقة وفقيرة تعيد انتاج العنف كجزء أصيل في ثقافتها، هكذا قال أوباما وهو يغادر ولايته الثانية عندما كان يتهيّأ لمغادرة الشرق الأوسط في مقابلة هامة نشرتها آنذاك مجلة اتلانتس.
علينا أن ننظر لأنفسنا في المرآة ونرى أنفسنا بعيون غيرنا لا بعيوننا التي نامت على أبيات شعر تمجيد العربي لذاته، ليكتشف أن الجميع يتعامل معه باستخفاف، هكذا كانت دورة ترامب التي كشفت وزننا الحقيقي، ثم جاء بلينكن ليمارس خديعة ناعمة، حين هبط مطلع الحرب وتنقل بين العرب وسيطاً، واثقاً من أن العرب البسطاء سيبتلعون أي شيء، فلا داعي لأن يجتهد كثيراً حتى يمرر عليهم الخديعة، ولكن الحقيقة أن ضعفهم وقلة حيلتهم لا تترك أمامهم خيارات سوى الركض خلفه.
دم كثير في غزة، ومأساة هي الأكبر في هذا القرن، وإبادة وتجويع وترويع وقتل أطفال ونساء، ومحرقة لا مثيل لها يفخر الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة أنه وفر لإسرائيل شروط نجاحها، ووفر لها قبة حديدية دبلوماسية منعت وقفها، وموّلها بالمال والسلاح ومنع أي تدخل إقليمي في هذه الحرب ليوفر لإسرائيل ما يكفي من الوقت لإتمام المذبحة، هكذا بكل غرور يتبنى الحزب الذي غطى تلك الإبادة برنامجاً يتعهد بدعم دولة الإبادة.. أرأيتم إجراماً أكثر من هذا؟
لم يتبنّ الحزب في برنامجه وقف الحرب ولا وقف توريد السلاح الذي يُقتل به المدنيون رغم المطالبات الكبيرة في المؤتمر، بل عاد ليذكر باتفاق تزويد اسرائيل بثمانية وثلاثين مليار دولار في عصر أوباما؟ ويتعهد بعد أن تنتهي إسرائيل من إبادة غزة وغسل يدها من الدم، بأن يجر الدول العربية للتطبيع معها بعد الجريمة ..هناك ما يدعو للقهر من دولة آلت إليها قيادة العالم وحراسة الأخلاق والأعراف والقوانين الدولية.
الفلسطيني الذي يقاتل للتحرر من الاحتلال مجرم وفاشيّ، أما الذي يقوم بإبادة جماعية هي دولة لها كل الدعم والإسناد وهي دولة الحضارة، هكذا هو العرف الأميركي الذي تقدم أقوى دولة نفسها به، ولماذا لا تكون تلك معاييرها وتاريخها يشهد بالإغارة على دول وشعوب؟.. نحن لم نفهم الأمر، علاقة إسرائيل بأميركا هي علاقة الابن والأب، يخطئ الابن.. يرتكب جرائم ...يعتدي على الآخرين ...يمارس البلطجة.. فيحميه الأب ويغطّيه، ولكنه يدّعي التعاطف مع الضحايا، مع الابن في السرّاء والضرّاء ...ظالماً أو مظلوماً.