إنه زمن التساؤلات والتكهنات: هل يردّ حزب الله على اغتيال «إسرائيل» كبير قادته العسكريين الشهيد فؤاد شكر ومتى؟ هل تردّ إيران على قيام «إسرائيل» باغتيال ضيفها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشهيد إسماعيل هنية ومتى؟
إذا ردّا، كيف وأين يردّ كيان العدو عليهما؟
المفاوضات في الدوحة، التي نظمتها الولايات المتحدة ومصر وقطر، وحضرتها «إسرائيل»، لم تنجح وإن لم تفشل، بدليل الإصرار على متابعتها في القاهرة. حماس لم تشارك في مفاوضات الدوحة، فهل تشارك في مفاوضات القاهرة، وماذا يمكن أن تقدّم لها الولايات المتحدة من ضمانات بشأن انسحاب «إسرائيل» فعلياً من قطاع غزة؟
لنفترض أن المفاوضات في القاهرة نجحت في إيجاد آلية لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وانسحاب «اسرئيل» منه، فهل يعتمد كيان العدو هذه الآلية وينسحب فعلاً، أم يعود إلى اختلاق ذرائع ومطالب جديدة لتأخير الانسحاب؟ لنفترض أن «إسرائيل» انسحبت من قطاع غزة، فمن يدير القطاع في اليوم التالي؟ هل تخرج حماس من الأنفاق، تحت مدينة غزة، إلى العلن فوقها، وتعود إلى إدارة القطاع جهاراً؟ أما إذا لم تنسحب «إسرائيل» من القطاع، فكيف تراها تتصرف تنظيمات المقاومة الفلسطينية في القطاع والضفة الغربية، والمقاومة العربية في جبهات الإسناد، انطلاقاً من لبنان واليمن والعراق وسوريا؟ وهل تعتمد تنظيمات المقاومة الفلسطينية والعربية في المرحلة المتجددة للصراع الوتيرةَ والآليات والنهج المعتمد ذاته، الذي جرى اعتماده في المرحلة السابقة؟
أخيراً وليس آخراً: هل يمكن تطوير نهج المواجهة من الردّ بالانتقام إلى اعتماد خيار حرب الاستنزاف طويلة الأمد، بقصد إنهاك العدو وإكراهه على الخروج من الأراضي العربية المحتلة في فلسطين وسوريا ولبنان؟
الأجدى هو انتقال تنظيمات المقاومة الفلسطينية والعربية من حال الانتقام والاشتباك الموضعي المتبادل مع العدو إلى حرب استنزاف طويلة الأمد
تخلّلت زمن التساؤلات والتكهنات تطورات بالغة الأهمية والدلالات: قيام حزب الله بكشف مفاجأة إستراتيجية عنوانها «منشأة عماد -4»، وهي قاعدة ضمن مجموعة قواعد صاروخية في الجبال، تضم آلاف الصواريخ بعيدة المدى، مجهّزة بفتحات إطلاق، حيث تتحرك الراجمات الثقيلة بأمان داخل الأنفاق، وصولاً إلى الفتحات لتنفيذ رماياتها. وقاعدة عماد -4 مجهّزة بغرف عمليات، وقيادة وسيطرة، ونظام اتصالات خاص مرتبط بالقيادة العليا، ومخازن للصواريخ والذخيرة، ومرافق أغذية وأدوية وأماكن نوم للمقاتلين، فضلاً عن مولدات كهربائية وخزانات وقود، ومستشفى مع فريق من المتخصصين، ما يمكّن عديد القاعدة من الصمود داخلها لمدة سنة وأكثر.
أحدث الكشف الجزئي عن مزايا قاعدة عماد – 4 ومحتوياتها خضّةً سياسية ونفسية واسعة في كيان العدو. بعض رجالات الكيان مثل رئيس الحكومة الأسبق إيهود باراك دعا إلى المسارعة إلى قبول مقترح الرئيس بايدن لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. بعض الوزراء وأعضاء الكنيست المتطرفين دعا إلى شنّ حرب استباقية على حزب الله وإيران قبل أن يستكملا استعداداتهما لمهاجمة «إسرائيل». غير أنه يُستشف من تقييمات وتعليقات خبراء عسكريين ومعلقين استراتيجيين داخل كيان العدو وخارجه، خمس نتائج وازنة:
أولاها استبعاد قيام العدو بشنّ حرب استباقية على حزب الله، بعد ثبوت قدرته على إخفاء وحماية صواريخه ومخازن أسلحته في قواعد كائنة في بواطن الجبال.
ثانيتها اتجاه العدو، بعد الكشف عن قاعدة عماد-4، إلى تخفيف ردّه على حزب الله، في حال قيام الحزب بتوجيه ضربة قاسية لكيان الاحتلال انتقاماً لاغتيال الشهيد فؤاد شكر.
ثالثتها احتمال عدم قيام حزب الله، وكذلك إيران، باستعجال توجيه ضربة شديدة إلى «إسرائيل» انتقاماً لاغتيالها الشهيدين إسماعيل هنية وفؤاد شكر، وذلك إفساحاً في المجال أمام الولايات المتحدة ومصر وقطر لاستكمال المفاوضات الجارية لإقناع «إسرائيل» وحماس بتنفيذ مقترح بايدن.
رابعتها ازدياد اقتناع الولايات المتحدة بوجوب عدم تطوّر الصراع المحتدم بين «إسرائيل» وتنظيمات المقاومة الفلسطينية والعربية إلى حرب إقليمية شاملة، الأمر الذي يهدد مصالح أميركا مثلما يهدد وجود «إسرائيل».
تزايد معارضة الجمهور الإسرائيلي لحكومة بنيامين نتنياهو، ما يساعد الولايات المتحدة على الضغط عليه، بغية الموافقة على آلية لوقف إطلاق النار في قطاع غزة تفادياً لحربٍ مفتوحة.
كل هذه النتائج السالف ذكرها لن تؤدي في تقديري (وكثير غيري) إلى حمل نتنياهو على تغيير أو تعديل سلوكياته العدوانية الراهنة إزاء تنظيمات المقاومة الفلسطينية والعربية، ما سيؤدي تالياً إلى استمرار الصراع، ربما بوتيرةٍ أشد مما هي عليه اليوم. ذلك يطرح بالضرورة على تنظيمات المقاومة الفلسطينية والعربية سؤالاً مفتاحياً: هل تستمّر في اعتماد نهجها الحالي في التصدي للعدو الصهيوني أم تعيد النظر فيه، في ضوء الثغرات التي تكشّفت في أداء العدو خلال الصراع في الأشهر العشرة المنصرمة؟
أرى أن من واجب تنظيمات المقاومة العربية كلها ألاّ تكتفي بأن تضع في الحسبان الفجوات الكثيرة في أداء العدو، التي تكشّفت أخيراً فحسب، بل أن تضع في اعتبارها أيضا الفواعل الإيجابية التي تكوّنت قبل المواجهة الأخيرة ضده وخلالها وبعدها. ولعل أبرز هذه الفواعل الإيجابية الواعدة ثلاثة:
أولاً، انطلاق طوفان الأقصى وما رافقه وأعقبه من صحوةٍ شملت معظم بلاد العرب، وامتدت بعدها إلى دول إسلامية وأخرى أجنبية، بحيث أصبحت بفضلها قضية فلسطين ونصرة الشعب الفلسطيني المظلوم قضية ًعالمية، تتردد أصداؤها في معظم دول العالم، لاسيما في دول الغرب الأطلسي، وتلقى تأييداً وتجاوباً في الكثير من المحافل الدولية.
ثانياً، انتقال تنظيمات المقاومة الفلسطينية والعربية من حال التضامن السياسي اللفظي إلى حال التحالف الميداني الفعلي، الذي ترجم نفسه في الواقع بوحدة الساحات بين تنظيمات المقاومة في كلٍّ من فلسطين ولبنان واليمن والعراق وسوريا، وهو تحالف مدعو إلى ممارسة مزيد من الفعالية القتالية في مختلف الساحات.
ثالثاً، انتقال بعض تنظيمات المقاومة الفلسطينية والعربية من حال استيراد سلاحها إلى حال تصنيعه وتطويره وتدقيق تصويبه وحمايته، كما اتضح أخيراً في تجارب كلٍّ من حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين وحزب الله في لبنان، المسنودين بدعم موصول في ميادين عدّة من إيران. ذلك كله يجعل من تنظيمات المقاومة العربية وإيران قوةً إقليمية بارزة ومقتدرة في الإقليم كما في العالم.
في ضوء هذه الفواعل اللافتة أرى أنه من الممكن، وربما من الواجب، أن يقوم كلٌ من حزب الله وإيران بتسديد ضربة انتقامية لكيان العدو الصهيوني رداً على اغتيال الشهيدين فؤاد شكر وإسماعيل هنية. لكني أرى، وربما كثيرون غيري، أن الأجدى هو انتقال تنظيمات المقاومة الفلسطينية والعربية من حال الانتقام والاشتباك الموضعي المتبادل مع العدو إلى حال حرب الاستنزاف طويلة الأمد، المدعومة من إيران، وربما من غيرها في المستقبل، بقصد إرهاق العدو وإنهاكه وحمل جمهوره المتعب على الهجرة من مختلف مناطق فلسطين المحتلة، ما يؤدي تالياً إلى انهيار كيان الاحتلال.
ألا تستحق هذه المقاربة والخيار اهتماماً جدياًّ من قيادات تنظيمات المقاومة العربية في هذه الآونة؟