نجحت قوى المقاومة في مراحل تنسيقها الأولى في تحقيق تضامن معنوي تطور عبر مراحل المواجهة مع الكيان الإسرائيلي إلى نوع من التكامل الذي تُرجم في ما بعد قناعة بأن انكسار أي طرف من هذه المقاومات قد يؤدي إلى تضعضع بنيان تلك المنظومة.
لم تعد البيئة الاستراتيجية التي عمل الكيان الإسرائيلي على إرسائها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط صالحة لمواجهة التحديات التي فرضتها قوى المقاومة التي وضعت نصب عينيها تحقيق مهمة إلغاء آثار هيمنته في منطقة، أي بما يعني في إطار مهمة إزالته من الوجود مواجهة مشاريع التفتيت والتقسيم ومواجهة جهود إرساء قوة الاحتلال كقوة شرعية تستند إلى فرضية عدم واقعية إزالته، إضافةً إلى إلغاء آثار معاهدات السلام والتطبيع والتعاون العسكرية التي أُبرمت مع العديد من الدول العربية والإقليمية.
في تلك المرحلة التي كان من أهم سماتها تكريس ما يعرف بالسلام الأميركي الإسرائيلي الذي يعتمد على التفوق العسكري، والذي يقوم على إسقاط ما تريده الهيمنة الأميركية الإسرائيلية على العلاقات الإقليمية وتظهيرها كحاجة حيوية للدول التي تسعى للاستقرار، نجحت الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في جعل مسار السلام بين بعض الدول العربية والكيان الإسرائيلي ضرورة حيوية للدول العربية، بحيث تحولت العلاقة مع الكيان الإسرائيلي إلى ضرورة حيوية لتحقيق السلام والازدهار داخل هذه الدول.
من خلال مسارات السلام الأميركي الإسرائيلي، وبعدما كانت المقاومة للكيان الإسرائيلي تعبر عن جوهر قضية فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني، تحولت بعد مؤتمر مدريد للسلام واتفاقات السلام التي تلت إلى عنصر دخيل على الوعي السياسي العربي، إذ عمد النظام الرسمي العربي إلى نزع صفة الشرعية عنها، وألصق بها صفة العبثية التي تؤثر سلباً في قضية فلسطين.
وإذا كان النظام العربي في مراحل التطبيع الأولى قد رفع عن المقاومة غطاء الشرعية وتركها تصارع وحدها، فإن ذلك التخلي تحول في مراحل لاحقة إلى شكل من العداء الذي أمكن لمسه من خلال الموقف العربي من حزب الله عام 2006 ومن حركة حماس عام 2007، حين انقلب محمود عباس عليها يوم حل حكومة الشهيد إسماعيل هنية.
بطبيعة الحال، لم يكن هذا الواقع إلا ترجمة لقناعة الأنظمة العربية بعدم إمكانية مواجهة الأحادية الأميركية والتفوق الاستراتيجي الإسرائيلي اللتين زرعتا في الوعي السياسي العربي ضرورة التحالف مع الكيان الإسرائيلي لمواجهة ما تعتبران أنه يهدد أمن المنطقة، أي عراق صدام حسين، وكذلك الجمهورية الإسلامية في إيران.
وإذا كان من الممكن، وفق السردية العربية، أن يتقبل المرء تحالفاً دولياً لإسقاط نظام الرئيس العراقي صدام حسين لناحية سياساته العدوانية التي أعقبت حربه مع إيران، إذ احتل الكويت وهدد باحتلال المملكة العربية السعودية، فإن السردية الأميركية التي تم التسويق من خلالها لخطر الجمهورية الإسلامية الإيرانية لم تكن متماسكة، بما يساعد في التخطيط لإسقاطها أو حتى مجرد توجيه ضربة إليها من دون أن ننسى أن تعاظم قدراتها بشكل سريع وتمكنها من نسج منظومة تستند إلى عقيدة مترسخة لدى شعوب المنطقة المؤمنة بأن التحرر وتحقيق السلام يبدأ من تحرير فلسطين.
وبناء عليه، نجحت قوى المقاومة في مراحل تنسيقها الأولى في تحقيق تضامن معنوي تطور عبر مراحل المواجهة مع الكيان الإسرائيلي إلى نوع من التكامل الذي تُرجم في ما بعد قناعة بأن انكسار أي طرف من هذه المقاومات قد يؤدي إلى تضعضع بنيان تلك المنظومة.
وعليه، عملت هذه القوى منذ حرب لبنان الثانية عام 2006 على مشاركة خبراتها وتطوير قدراتها، بحيث باتت قادرة في مواجهة الكيان على إرساء نوع من الردع البدائي الذي يمكن تعريفه من خلال عمل كل طرف مقاوم على إلحاق الأذى بالعدو ومحاولة إفشال مخططاته إذا حاول شن حرب مدمرة عليه.
وإذا كان هذا الشكل من الردع البدائي قد حكم فترة غير قصيرة من الصراع مع الكيان الإسرائيلي، فإن ذلك لم يكن إلا مرحلة أولى في سياق المواجهة، إذ عملت قوى المقاومة على إعادة صياغة عوامل النصر على الكيان الإسرائيلي من خلال إعادة قراءة ظروف مواجهة النظام العربي للكيان، بدءاً من حرب 1948، وصولاً إلى حرب 1973، ومروراً بكل محطات العمل المقاوم، بحيث لم تعد المقاومات التي انتظمت في محور متماسك تعتمد أسلوب رد الفعل المحدود ضمن إطار الجغرافيا والمواجهة المنفردة لكل طرف فيها، إنما أظهرت ميلاً سريعاً نحو تحقيق توازن رعب يتخطى في أهدافه ما عرفناه بالردع البدائي.
وإذا كان طوفان الأقصى في أيامه الأولى قد دلّ على إمكانية المبادرة في وجه الكيان من خلال مهاجمته بشكل مشترك بغية إلزامه بوقف عدوانه على أحد الأطراف، أي بما يعني الانقلاب على سردية التفوق الإسرائيلي الذي لا يمكن مجاراته بشكل مباشر، فإن الواقع اليوم أثبت حقيقة الانتقال إلى مرحلة جديدة عنوانها معاقبة الكيان على أفعاله وتدفيعه أثماناً باهظة.
الانتقال من استعراض القوة إلى استخدام القوة بات سمة المرحلة الراهنة لدى محور المقاومة، إذ إنَّ الإعلان عن استخدام أسلحة محدودة في مواجهته والتهديد بالتحول إلى استخدام أسلحة جديدة أكثر فتكاً وتطوراً، كما كان حال خطاب حزب الله أو تنفيذ عمل عسكري هجومي شامل في تعريفه محدود في نتائجه، كما حال الهجوم الإيراني ليلة 14 نيسان، دلّ اليوم مع خطابات قائد الثورة الإسلامية في إيران وأمين عام حزب الله وقائد أنصار الله بعد الاعتداءات الإسرائيلية على الحديدة واغتيال القائد إسماعيل هنية، وكذلك القائد فؤاد شكر، على سلوك مختلف من حيث الشكل والمضمون.
التهديد لم يعد يتعلّق بفعل إفشال العدوان وتكبيده خسائر تسجل في خانة قد يستطيع الكيان عادة تحملها، فإذا كان الأخير في المراحل السابقة يستند في قراراته إلى إمكانية تحمل رد فعل يعتبره حاجة صورية لعدوه، أي محور المقاومة، بما يمكن تخيّله على شاكلة إطلاق عدد من الصواريخ المحدودة النتائج على أطرافه، أي بعيداً عن عمقه الاستراتيجي في خوش دان أو على شاكلة تعرض أحد مقاره في الخارج لهجوم لا يؤثر بشكل عميق على سردية تفوقه ومنعته، إذ من الممكن استغلاله في علاقاته الدولية، فإن المرحلة الحالية تدلل على إصرار المحور على المساس بجوهره لناحية البحث في رد يعادل في مضمونه نتائج سلوكه الإجرامي.
ومن خلال ما يرشح اليوم عن الإعلام الإسرائيلي لناحية التحسب لرد يتخطى في شكله وجوهره ما يمكن للكيان تحمله، إذ يتهيأ بالتعاون مع حلفائه العرب والغربيين لمواجهته من دون أي قدرة لحسم إمكانية نجاحهم دون أن ننسى نجاح قادة المحور في تكريس قناعة لدى مجتمع الكيان وقيادته السياسية في حتمية تلقيهم ضربات في عمقهم وانتظار توقيتها غير المعلوم بقلق وحيرة من اليوم الذي سيليها، مع الإشارة إلى يقينهم بقدرات هذه الضربات التدميرية، يمكن القول إن المحور تخطى إطار الردع البدائي ليكرس توازناً للرعب يتحكّم بشكل قوي في تفاصيله وحدوده.