منذ نشأته، يتعامل المشروع الصهيوني، مع المجتمعات عموماً، ولا سيما في الدول الكبرى، بوصفها شبكات سلطوية يعمل على الاستفادة من انقساماتها ويعزّز مصالحها انتهازياً لكسب تأييدها. بينما يتعامل، وفق المنطق الكولونيالي، مع المجتمعات المحيطة به بوصفها طوائف ويثابر على دكّ الشرعية الداخلية لأنظمتها، ولا سيما التحديثية الوطنية منها، وعلى تطويعها أو تفتيتها، من ضمن إعادة تشكيل مستمرة للمجال الإقليمي جيوسياسياً. لذلك، إظهار القوة الغالبة، وبالتالي العدوان، هما في أساس أدواته.
فهو، بتأليب القوى الكبرى وزعزعة الدول المحيطة، يجعل قادة الأخيرة يرضخون لمصالحه ويرتضون مساره. وهو لا يتردّد في اغتيال من لا يرتضي الدور المرسوم له.
والاغتيالات، في فلسطين أولاً، وفي لبنان وإيران وغيرهما، ما هي إلا تظهير لتلك الأداة التي تهدف إلى ترويض أي عمل مقاوم للمشروع الصهيوني.أصابت عملية 7 تشرين الأول أسس الصهيونية كمشروع سياسي عالمي؛ فالإنجاز كان أن الدولة التي صوّرها قادتها كحصن نهائي ليهود العالم، وكمثال لديمقراطية الغرب وقلعة من قلاعه، باتت في نظر العديد من سكان العالم نموذجاً للعنصرية وتهديداً لليهود أنفسهم، وعبئاً أميركياً على قيادات «دول الغرب»، حيث يبرز التناقض بين ادعاءات الديمقراطية والمساواة لدى الأنظمة والواقع العنصري في فلسطين، وحيث تستعر الانقسامات الهوياتية بين المواطنين فتتغذى من ممارسات الحالة الإسرائيلية القصوى. لهذا السبب، يستشرس نتنياهو وحكومته في التقتيل والاغتيال، ليس هرباً من ملاحقات قضائية وحسب، بل لفرض استمرار المعركة، كي لا يعلو صوت فوق صوتها وتنكشف التناقضات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي، بين اليهود أنفسهم وبينهم والعرب، أي لكي لا تهدأ الأمور ويتظهّر مدى عمق إصابة شرعية المشروع الصهيوني في إسرائيل وحول العالم.
نظّم العدوّ الإسرائيلي مجزرة مجدل شمس في الجولان، أو استغل خطأ عسكرياً من صاروخ اعتراضي، كوسيلة للفتنة الطائفية على صعيد فلسطين ولبنان وسوريا، مثلما فعل في لبنان خلال الحرب الأهلية وتمهيداً لها. فرأينا منذ المجزرة اللعب على وتر الانقسام الطائفي عبر التركيز على دروز فلسطين والجولان، وزعمه دفاعه عنهم وانضمامهم إليه، في وجه أبناء بلدانهم ومجتمعاتهم، وهو العالِم بارتدادات ذلك على شبكة الطوائف في سوريا ولبنان، حيث الهويات الطائفية باتت المُسيّر الأول للعمل السياسي والعامل الأبرز في تفكّكها وعجزها عن بناء دول.
لكنه، في الآن نفسه، صعّد المواجهة بشكل استثنائي، فقرّر اغتيال أحد أبرز قادة حزب الله في بيروت، وقام بعد ذلك بساعات قليلة باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» في طهران. توقيت وشكل وموقع هذه الضربات، ولا سيما الثانية، يعني أن إسرائيل دفعت بكفة المواجهة الإقليمية إلى حدها الأقصى، وهي في تدرّج يتجه نحو حرب واسعة، فأصبحت المسألة اليوم على مستوى اللاعبين الأساسيين في المنطقة، إيران وأميركا، مباشرة، مسألة تفاوض تحت التهديد وعند حافة الهاوية. تصعيد الأيام الأخيرة لا يجوز أن ينسينا أن الافتتاحية كانت في الكونغرس الأميركي حيث مهرجان التصفيق الاستعراضي لنتنياهو، في حين ينشغل أعضاؤه بانتخاباتهم وبتمويلها، كرّس شرعية ترميم إسرائل لشرعيتها. ومسلسل أحداث الأيام الماضية يشهد على ذلك. لبنان اليوم يقع بين مفاعيل تلك المواجهة الإقليمية في خارجه، وجهود المشروع الصهيوني لضرب أي شرعية لدولة في داخله.
مواجهة العدو اليوم في محلّها، لأنها مواجهة لإعادة تشكّل الإقليم بما يقضي على مجتمعنا. التضحيات والإنجازات التي تحققت حتى اليوم أصبحت بحاجة إلى طرح سياسي يصيب العدو في حساباته السياسية الذاتية، أي على صعيد شرعيته، وقد بات ذلك متاحاً، ولكنه بحاجة إلى تأطير المواجهات التي حلّت والتي ستأتي. ولحزب الله اليوم ثقل أساسي، أكثر من أي وقت مضى، في الميدان، وإنما في ميزان القوى الإقليمي، بسبب ما أبداه من قدرة على حشد الموارد واستخدامها، وشرعيته الثابتة بين جمهوره، بما يميّزه عن اللاعبين الإقليميين الآخرين، حتى من ينضوون في المحور نفسه، يخوّله ذلك وضع أسس الانتقال بالمعركة من أسر الطوائف والهويات إلى طرح مشروع سياسي إقليمي ينطلق من لبنان إلى فلسطين، وقادر على تثمير المعركة مع المشروع الصهيوني.
هذا الطرح هو نقيض المشروع الصهيوني في أساسه ومنطلقه، وفي ما استولد من حوله عندنا أولاً، ومن ثم في الإقليم من حولنا. قوامه تخطي صراعات الهويات القومية-الدينية، والعودة إلى الأطروحات التأسيسية للمقاومة الفلسطينية، أي دولة مدنية ديمقراطية على كامل أرض فلسطين، من منطلق إرساء الشرعية المدنية لدولة في لبنان، حيث بدأ مسلسل الحروب الأهلية وحيث تمّت مأسسة هدنة أحزاب وزعماء الطوائف، ووصولاً إلى سوريا والعراق، حيث تمدّد الداء وتفتّتت المجتمعات.