تكمن أزمة القوانين الأوروبية في النظر إلى الكيان كونه مدنياً ديمقراطياً ذا "مؤسسات قانونية فعالة". لذا، يحرص الكيان مثلاً على عدم سن قانون بإعدام الأسرى الفلسطينيين، ليحافظ على فضاء تحرك المزاج الإسرائيلي في العالم الغربي.
نحن نحمي جنودنا أمام العالم عبر هذه التحقيقات القانونية الداخلية"، هكذا اعترف قائد هيئة أركان "الجيش" الإسرائيلي؛ هرتسي هليفي، بالبواعث الحقيقية خلف التحقيقات في فظائع معتقل سيدي تيمان، وهو يميط اللثام عن الأهداف الإسرائيلية من تدخل الشرطة العسكرية للتحقيق مع تسعة من جنود الجيش، بعد الفظائع الجنسية التي ارتكبوها بحق أسير فلسطيني، حتى شارف على الموت.
هليفي لا يلقي بالاً لمأساة الأسرى الفلسطينيين، وهو بدوره، مع كل الوزراء، وكبيرهم نتنياهو، أطلقوا جهاراً نهاراً أيدي "الجيش" والشرطة والشاباك وميليشيات المستوطنين، للفتك بالفلسطينيين، سواء في الأسر في سدي تيمان مع أسرى غزة، أو سائر سجون الاحتلال مع أسرى الضفة والداخل، وقد تحولت كل السجون ومراكز الاعتقال إلى مسالخ تعذيب منذ السابع من أكتوبر، حتى قضى فيها 48 شهيداً.
يدرك هليفي طبيعة المجتمع الإسرائيلي المهجن، فكل إسرائيلي مزدوج الجنسية، يحمل الجنسية الفرنسية أو الأميركية أو البريطانية أو الكندية، ومن النادر ألا يسافر الإسرائيلي مرة ومرتين في السنة خارج البلاد، فالإسرائيليون ضمن بواعث نفسية واقتصادية وسياحية، لا تستقرّ لهم حال داخل الكيان الذي يُفترض أنه "وطنهم"، فكيف خلال الحرب الراهنة، وهي مرشحة للاتساع، وقد تجاوز عدد من غادر الكيان منهم خلال هذا العام مليوناً؟!
تنص أغلبية القوانين الدولية على عدم النظر في الشكاوى الجنائية، التي يتم النظر فيها أمام المحاكم المحلية في بلد المشتكى عليه، والإسرائيليون تواجههم أزمة قانونية برفع دعاوىً ضد شخوصهم أمام المحاكم الأوروبية والدولية، وخصوصاً قادة الجيش وضباطه وجنوده، وللحيلولة دون تفعيل شكاوى متوقعة كهذه، تبادر الشرطة العسكرية، بتوجيه من المستويين العسكري والسياسي، إلى احتواء الجرائم الجنائية، في أبعادها القانونية، وخصوصاً عندما تخرج الأمور عن السيطرة.
ولا يخفى أن مستوى الإجرام في سجون الاحتلال تجاوز أي مثيل له في العالم، بعد الإيغال في الاعتداءات الجنسية على أسرى غزة، وحرب التجويع مع التعذيب والإذلال ضد أسرى الضفة، على نحو تطلّب احتواء هذه القضية إسرائيلياً، بعد تحرك جهات رسمية وحقوقية في عدة دول أوروبية، بينها بريطانيا وفرنسا، وخصوصاً بعد التغيرات السياسية في حكومات هذه الدول المنددة بالوحشية الإسرائيلية، وبعد القرارات التي تصدر تباعاً عن محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، والتي قد تصدر باعتقال نتنياهو وغالانت.
جاء تحرك الشرطة العسكرية الإسرائيلية، وهي تتبع الجيش بقيادة وزير الحرب يوآف غالانت، وليس جهاز الشرطة المدنية التابع لإيتمار بن غفير، بهدف إضفاء الشرعية على الجرائم السابقة التي اجتاحت السجون، بمعنى طيّ هذا الملف بصورة قانونية، داخلياً وخارجياً، وهذا ما يعجز عن فهمه غلاة التوحش في اليمين الإسرائيلي. لذا، بادروا إلى الهجوم على معسكر سدي تيمان، ثم اقتحام قاعدة بيت ليد، حيث يتم التحقيق مع الجنود المعتقلين، وبينهم قائد المعسكر.
يتحرك قادة "جيش" الاحتلال لحماية جنودهم من إجراءات قانونية ستطاردهم على المستوى العالمي، وهم يعون حقيقة الجرائم التي يتم اقترافها خلف قضبان الأسر، وهنا ثمة فارق جوهري بين الوحشية المقننة بالخبث والكذب والاحتيال. ويبدو أن عشرة أشهر من الإجرام غير المنظم، أيقظت هذا الخبث في هذه الوحشية، وبين الوحشية المنفلتة من كل الضوابط.
هنا يظهر الفارق بين عسكري ليبرالي يميني طموح بالقبول العالمي عبر الفضاء الأوروبي، وهو المتنفس الطبيعي للمزاج الإسرائيلي، وهو ما يعبّر عنه شخص هليفي وطبيعة فهمه وأدواته، وبين مهرج يميني يفتقد الكوابح ويعكس ذاته الإجرامية من دون ضابط، وهو ما ظهر في بن غفير وليمور وغيرهما من الوزراء وأعضاء الكنيست ممن شارك في الهجوم على القاعدتين، وخصوصاً بعد أن ظهرت ليمور وهي تأخذ الصور مع أشخاص ملثمين ومسلحين عند باب قاعدة بيت ليد غداة اقتحامها.
تكمن أزمة القوانين الأوروبية والدولية في النظر إلى الكيان الإسرائيلي كونه كياناً مدنياً ديمقراطياً ذا "مؤسسات قانونية فعالة". لذا، يحرص الكيان مثلاً على عدم سن قانون بإعدام الأسرى الفلسطينيين، ليحافظ على فضاء تحرك المزاج الإسرائيلي في العالمين الأوروبي والغربي، على قاعدة افتقاده الشرعية النفسية، لكن النظرة الغربية إلى الكيان قانونياً، تعطي مؤسساته أفضلية، وخصوصاً ما تعلق بمحكمة العدل العليا، حتى المحاكم العسكرية الإسرائيلية، على رغم أن أغلبيتها تعمل داخل حدود فلسطين المحتلة عام 1967، وهي أرض محتلة، وفق القانون الدولي والقانون الغربي.
أزمة المشروعية القانونية للمؤسسات الإسرائيلية، غربياً، سيف ذو حدين، فهي من جهة تعوض الكيان ولو جزئياً عن جوهر افتقاده الشرعية، انطلاقاً من وجوده على أطلال أرض وشعب يقاتل لاستعادة حقوقه التاريخية والواقعية والقانونية. ومن جهة أخرى، فإن هذه الأزمة تضع إجراءات الاحتلال العملية أمام اختبارات دولية، وهو ما تم تجاوزه بعد السابع من أكتوبر بصورة كاملة. فهل ينجح الاحتلال في استعادة بعض التوازن ضمن هذا الاعتبار؟
يأتي تعمق الشرخ الإسرائيلي الداخلي بين يمين الوسط واليمين المتطرف، ليُلقي ظلاله على كل أزمات الكيان، وهنا تظهر أزمته فيما يُفترض أنها قضية هامشية، بمجرد التحقيق مع جنود ارتكبوا فظائع جنسية بحق أسير، بعد عشرة أشهر من التمادي في مسلسل الفظائع هذا، على نحو يعزز فكرة ظهور "إسرائيل الثانية"، وهي هنا المعزولة حتى عن فضائها الغربي وفضائها الأوروبي، وهي تدير ظهرها للمحاكم الدولية، ليس فقط نتيجة اعتبارات سياسية، فهذا مألوف، لكن هذه المرة ضمن توجه منهجي للتقاطع مع القوانين الأوروبية، وفق المنحى الذي تذهب إليه الصهيونية الدينية.
كشف الحدث المتدحرج في معسكرَي سدي تيمان وبيت ليد أن الصهيونية الدينية مستعدة من أجل ذلك، ليس فقط اقتحام قواعد عسكرية للجيش بآلاف المستوطنين الملثمين المسلحين، لكن أيضاً لفرض هذه العقلية على الغرب، ليس ضمن أصداء السابع من أكتوبر، لكن ضمن سياسة توراتية أيديولوجية، على نحو يجعل مهمة هرتسي هليفي وقادة الجيش عسيرة في استعادة الحد الأدنى من توازن الجيش والمؤسسة العسكرية، ما دام نتنياهو يصر على دفع غلاة الصهيونية الدينية إلى تحريك عجلات الآلة الإسرائيلية برمتها نحو مزيد من الحيوانية البهيمية.