من الواضح أنّ الصين تجهّز أوراقها استعداداً لمرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. فهي تعلم جيّداً أنّ الإدارة الأميركية القادمة، المحاصرة بالعديد من الأزمات التي تهدّد مكانتها الجيواستراتيجية على المستوى العالمي، سيكون لزاماً عليها اتخاذ قرارات حاسمة تشكّل الصين إحدى ساحات رمايتها، بغضّ النظر عن الفائز. وكانت الصين قد حقّقت اختراقاً جيواستراتيجياً مهماً في إنجاز اتفاق التقارب بين طهران والرياض، أثبتت خلاله أنها قادرة على التسلّل إلى قلب منطقة النفوذ الأميركية. ولا شكّ أنّ العدوان على غزة سيكون البند الأوّل على قائمة مهامّ الرئيس الأميركي القادم، بعدما أثبتت عملية «طوفان الأقصى» أنّ من المستحيل تهميش القضية الفلسطينية أو شطبها. ومن المنطقي والطبيعي أن تسعى الصين إلى أن يكون لها حضور فاعل في قضية هي الأولى في الاهتمام عالمياً، وبات الجميع على اقتناع بأنّ نتائجها ستغيّر الخريطة السياسية في المنطقة، وربما في العالم.ولا شكّ في أنّ الإدارة الأميركية، أو على الأصح الخلاف بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو، وارتكاب جملة من الأخطاء فتح المجال أمام الصين للتسلّل، وأعادت إحياء الدعوة إلى الاجتماع بعد أقلّ من شهر على إفشاله. استخدمت الإدارة الأميركية حقّ النقض، على مدى سنوات، لإسقاط كلّ مشروع قرار في مجلس الأمن للاعتراف بدولة فلسطين، كان آخرها ضدّ مشروع قرار تقدّمت به الجزائر في شهر أيار الفائت. كما أنّ القرار الذي أصدره الكنيست قَبل أيّام برفض الاعتراف بدولة فلسطينية، إضافة إلى رفضها المستمرّ لأيّ دور تقوم به السلطة في مستقبل غزة بعد الحرب، وضع حركة «فتح» ورئيسها في مأزق حرج.
انعكس ذلك في البيان الختامي، بصيغتَيه الرسمية والمسرّبة، حيث تضمّنتا عبارات شديدة اللهجة تجاه الإدارة الأميركية لَم تكن تذكر في اتفاقات المصالحة السابقة. فقد احتوى البيان على عبارات من مثل: «توحيد الجهود الوطنية لمواجهة العدوان الصهيوني ووقف حرب الإبادة الجماعية التي تنفذها دولة الاحتلال وقطعان المستوطنين بدعم ومشاركة الولايات المتحدة الأميركية»، وكذلك «حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال وإنهائه» و«مقاومة وإفشال محاولات تهجير شعبنا من أرض وطنه فلسطين، وخصوصاً من قطاع غزة أو من الضفة الغربية والقدس والتأكيد على عدم شرعية الاستيطان والتوسع الاستيطاني». ولا شكّ في أنّ البيان قد استفاد من الرأي الذي أصدرته محكمة العدل الدولية يوم الجمعة الماضي بخصوص الاحتلال والاستيطان في الضفة وغزة والقدس. هذه اللهجة تدلّ بوضوح على تبدّل في موقف «فتح»، ومنحت شرعية وطنية فلسطينية بأثر رجعي لعملية «طوفان الأقصى»، رغم الانتقادات والتهجّمات الكثيرة التي وجّهت لها، وهي لهجة فرضتها المواقف الأميركية والصهيونية على حركة «فتح». وما سوى ذلك، لم يتضمّن البيان جديداً حول بنود المصالحة وآلياتها، وهي المنجزة أصلاً منذ اتفاق القاهرة في عام 2011.
غير أنه لا يزال من المبكر إبداء التفاؤل حول نجاح هذه المصالحة هذه المرّة. ليس لأنّ الشيطان يكمن في التفاصيل فحسب، بل كذلك لغياب شبكة أمان عربية تضمن نجاحها. فالحكومات العربية التي اشترطت الاعتراف بالدولة الفلسطينية كشرط للتطبيع في قمّة بيروت في عام 2002، تخلّى العديد منها عن هذا الشرط، وأبرمت اتفاقات بدونه، ولا يبدو أنها في وارد التراجع عن ذلك، أو مراجعة مواقفها، ولا سيما أنّ البعض منها ينتظر عودة ترامب إلى البيت الأبيض، واستئناف سياساته السابقة، ولا سيما في سياق «صفقة القرن»، التي كان العديد من الحكومات العربية شريكاً فيها.
عكست خطابات ومداخلات رؤساء وفود الفصائل الفلسطينية في اجتماع بكين إدراكاً بأن القضية الفلسطينية تمرّ بأصعب مراحلها، وأنّ الكلّ مستهدف بنفس المقدار، وبأنّ السبيل الوحيد إلى ذلك هو في التكاتف والوحدة والالتفاف حول المقاومة لحفظ الحقوق وتحقيق الأهداف. وهذا عنصرٌ أساسي ومهمّ يمكن الرهان عليه، غير أنه لا يكفي وحده. ذلك أن حجم الدمار ونتائج العدوان، وتغوّل الكيان الإسرائيلي في الضفة يحتاج إلى جبهة إسناد سياسية لدعم الموقف الفلسطيني، ومساعدته في إعادة الإعمار، ولملمة جراحه، على أن يسبق ذلك قيادة فلسطينية موحّدة، وهو ما أبرزه البيان الختامي بوضوح، بانتظار أن يبصر النور قريباً.
وكذلك الأمر، فإنّ الهدف الذي حدّده البيان الختامي بإقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس، طبقاً لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، يعني بالضرورة تصعيد الاشتباك والمواجهة مع حكومة الاحتلال، الأشدّ يمينيّةً في تاريخ الصراع حتى تاريخه. هذا الاشتباك وهذه المواجهة يعنيان بوضوح أنّ الشعب الفلسطيني لا يزال في مرحلة تحرّر وطني، ومن المبكر جدّاً الحديث عن دولة.
* باحث وسياسي فلسطيني