Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

الطوفان والإبادة: دروس وظواهر

فلسطين اليوم//وكالات - لبنان

دروس كثيرة استقيناها منذ فجر «طوفان الأقصى» وحرب الإبادة التي رد العدو الإسرائيلي بها معتقداً أنها يمكن أن تكون ممحاة يمحو بها مفاعيل هذا الفجر من عقولنا وعقول ناسه وجمهوره على حدٍّ سواء. أول هذه الدروس من «الطوفان» هو أن مدرسة القتال التي ابتُدعت على يدي حزب الله في جنوب لبنان، والتي أثمرت أول انسحاب للجيش الإسرائيلي من أرضٍ عربية دون قيد أو شرط في عام 2000، ثم أثمرت أول انكسار لهذا الجيش في حرب تموز 2006 التي خرج إليها بهدف استيلاد «الشرق الأوسط الجديد» عبر القضاء على حزب الله، كما أعلنت كوندوليزا رايس منتشيةً في بدايتها، أن هذه المدرسة باتت تؤدي إلى نقطة تحوّل جديدة في الصراع العربي الإسرائيلي في كل مرّة يتواجه فيها أتباعها من فصائل المقاومة في فلسطين أو خارجها، مع إسرائيل.

ولأول مرة منذ عام 1948، أعطتنا هذه المدرسة، القائمة على الاحترام الشديد للمقاوِم الفرد المتطوّع والمؤمن بخياره وقضيته والمستعد دائماً للاستشهاد في سبيلهما، وعلى العقلانية الشديدة في قيادة جميع مناحي المواجهة من اختيار مواقيت الدخول في الحرب ومقدار شدّة هذه الحرب ومدى اتساعها وعدم تأثّر قرارات القيادة المتعلّقة بأيّ من هذه الأمور بأجواء الرأي العام المتلهّف للمواجهة الكبرى بعد الطوفان، أعطتنا الأمل الفعلي بإمكانية الانتصار النهائي على الصهيونية وتحرير فلسطين.

فقد رأينا بأمّ العين في عام 2006 كيف أدى هذا المزيج السحري من الاحترام، بل الأخوّة والثقة المتبادلة، بين القيادة والمقاومين والعقلانية المطلقة في إدارة الحرب إلى استحالة كسر المقاومة. وقد برهنت حرب الإبادة الجارية في غزة أن هذا المزيج حوّل المقاومة، في كلّ من لبنان وفلسطين، إلى جسم عصيّ على الكسر بشكل مطلق. فنحن الذين حضرنا حرب عام 1973 وشهدنا تحويل التوازن العسكري النسبي، الذي وصلت إليه الجيوش العربية يومها مع الجيش الإسرائيلي، إلى هزيمة سياسية وصلح منفرد بين مصر وإسرائيل على يدي السيّئ الذكر السادات، وشهدنا الهزيمة العربية الكبيرة في لبنان في عام 1982 والانحلال التام لكلٍّ من قيادة المقاومة الفلسطينية والجيش السوري وترك المقاومين والجنود لمصيرهم المحتوم فوق الجبال اللبنانية، بدأنا باستعادة الأمل بهزيمة الصهيونية وتحرير فلسطين منذ أن بدأت نقاط التحوّل المذكورة في الصراع العربي الإسرائيلي في عام 2000، وقد تحوّل أملنا هذا إلى يقين بحتمية هذا التحرير مع «الطوفان».
أمّا الدرس الثاني، فهو درس «كيّ الوعي» الذي أعطتنا إياه حرب الإبادة التي أشعلتها إسرائيل فور استعادتها لبعض صوابها مع نهاية يوم «الطوفان» وما زالت مستمرة بها حتى اليوم. فقد خرجت إسرائيل إلى هذه الحرب بهدف مُعلن وهو جعل غزة غير قابلة للعيش لإجبار الغزيين على إخلائها والهروب نحو سيناء. أي إنهم قرروا أن الرد الوحيد، الناجع بالنسبة إليهم، على «الطوفان»، هو بإحداث نكبة جديدة تكوي وعي الفلسطينيين ووعينا جميعاً بحيث يستحيل أن يفكر أحد منا بتكرار «الطوفان» أو البناء عليه من الآن وحتى مئة عام قادمة. لكن ما حصل هو أن وعينا كُوي بالاتجاه المعاكس.

فقد أعادت حرب الإبادة تذكيرنا بالطبيعة الأصلية لإسرائيل ككيان استعماري استيطاني بُني على اقتلاع شعب فلسطين وطرده من أرضه، وبأنها مطابقةٌ تماماً لطبيعة الكيان الاستعماري الذي أنشأته فرنسا في الجزائر، وبأن نهاية هذا الكيان في فلسطين لن تكون إلا كنهاية الكيان الاستعماري الفرنسي في الجزائر. وإلى جانب كيّ وعينا نحن، كَوَت حرب الإبادة الجارية وعي الرأي العام العالمي بمجمله، سواء في دول الجنوب أم في دول الشمال العالميَّين. فالمذبحة الجارية أمام كاميرات التلفزيون، وصورها المنتشرة حول الكرة الأرضية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عرّفت الرأي العام العالمي إلى الجوهر الحقيقي للصهيونية كحركة عنصرية لا تتورّع عن اللجوء إلى الإبادة كخيار أول انتقاماً من تجرؤ الشعب الذي تستعمره على مقاومتها وعلى تشكيل خطر حقيقي على كيانها الاستعماري. وقد حدث هذا التحوّل في نظرة الناس إلى الصهيونية ومشروعها الاستعماري العنصري في فلسطين حتى في دول «الغرب الجماعي» التي عادت أنظمتها العميقة الحاكمة إلى عصر الاستعمار المباشر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بل وبدأت مسيرة هذا التحوّل حتى داخل الولايات المتحدة الأميركية التي قفزت إلى تبوّؤ مركز قيادة حرب الإبادة فور البدء بها من قبل إسرائيل.
عملياً، بدأت المسيرة الطويلة لتحوّل إسرائيل بنظر الرأي العام الغربي إلى دولة فصل عنصري قائمة على إحلال المستعمِرين الذين تم جمعهم من شتى أصقاع الدنيا على أرض فلسطين، مكان الشعب الفلسطيني صاحب الأرض الأصلي. ونهاية هذه المسيرة الطويلة لن تكون إلا نسخة طبق الأصل من نهاية المسيرة الطويلة المشابهة لتحوّل نظرة الرأي العام الغربي تجاه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بدءاً من ثمانينيات القرن الماضي، أي المقاطعة التامّة لهذه الدولة حتى خنقها وسقوطها. فرعاية نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا من قِبل دول «الغرب الجماعي» لم تكن أقل من رعاية هذه الدول لإسرائيل حالياً. ولكن بالرغم من ذلك اضطرت هذه الدول أخيراً، تحت ضغط الرأي العام لشعوبها، إلى سحب هذه الرعاية عن نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ومقاطعته حتى سقط.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الصمود الأسطوري للمقاومة في غزة هو العامل الأهم من بين العوامل التي أدت إلى هذا التحوّل الجذري في الرأي العام العالمي، وبالتالي إلى بداية هذه المسيرة التي ستنتهي إلى المقاطعة التامة لإسرائيل. فهذه المقاومة العصيّة على الكسر، والتي لا تزال تعمل بكل انتظام من قمة هرم قيادتها حتى القاعدة، والتي لا تزال تبهرنا كل يوم بالبطولات الخارقة لمقاتليها الذين يبدون وكأنهم خارجون من الملاحم التاريخية في تصديهم المذهل لآلة الحرب الصهيونية، هي التي أظهرت الحرب وأبانتها على صورتها الحقيقية كحربٍ بين مقاتلين من أجل الحرية والاستقلال من ناحية، وجيش متوحش ومتعطش للانتقام العاري والذي لا يتورّع عن تدمير المدارس والجامعات والمستشفيات والأسواق فقط من أجل الانتقام، ولا يتردد في قتل ثلاثمئة مدني من أجل تحرير أربعة من أسراه في غزة، أو في قتل وجرح مئات المدنيين من أجل محاولة اغتيال محمد الضيف، من ناحية أخرى.
الدرس الثالث من حرب الإبادة، وهو مما لا بد من الاعتراف به، هو تمكّن إسرائيل من الاستمرار في الحرب لمدة تسعة أشهر متواصلة حتى الآن. فمن نقاط ضعف إسرائيل المعروفة حسب عدد من الخبراء العسكريين، كالفريق سعد الدين الشاذلي مثلاً، هو عدم تمكّنها من خوض الحروب الطويلة واضطرارها إلى حصر نفسها بالحروب السريعة والخاطفة بسبب اعتمادها على تجنيد الاحتياط بشكل أساسي، ما يعطل اقتصادها إذا ما طالت الحرب لأن جنود الاحتياط يضطرون إلى إخلاء وظائفهم المدنية أثناء الحرب، ولأن وظائفهم تبقى خالية بانتظارهم، حسب القانون الإسرائيلي، حتى انتهاء الحرب وعودتهم منها. لكن الخوف من الخطر الوجودي هذه المرّة من جراء «الطوفان» مكّن نتنياهو من أخذ المجتمع الاسرائيلي إلى الحرب لهذه الفترة القياسية. طبعاً كانت هبّة الإمبراطورية الغربية، برأسها الأميركي وذيلها الأوروبي، لنجدة إسرائيل والانغماس الكامل في حرب الإبادة، هي ما مكّن إسرائيل من الاستمرار في الحرب طوال هذه المدة بالرغم من نتائجها الكارثية على الاقتصاد والديموغرافيا الإسرائيلييْن.
لكن السؤال يبقى معلقاً حول إمكانية خروج إسرائيل من المستنقع الذي أغرقتها فيه هذه الحرب الإبادية الطويلة. فإلى جانب إشغال الاحتياط لشهور طويلة، هنالك التكاليف الهائلة للحرب وإيقافها للإنتاج الاقتصادي، وما أدت إليه الحرب من خروج للاستثمارات. وهنالك أيضاً النتيجة الأهم حتى الآن وهي خروج المستوطنين خروجاً نهائياً من إسرائيل بمئات الآلاف. فأولاد وأحفاد المستوطنين الأوربيين الأشكناز الذين بنوا الدولة لن يبقوا في إسرائيل مع انعدام شعورهم بالأمان. فالمستعمِر الغربي يغزو مستعمراته بهدف استغلالها، ويبقى في هذه المستعمرات طالما بقيت مربحة وطالما كان قادراً على العيش فيها عيشة الأباطرة وعلى سحق الشعوب المستعمَرة بأقل التكاليف. أما إذا ما أحس هذا المستعمِر بالخطر الحقيقي وبانعدام الأمان في مستعمَرته، فهو يقفل عائداً من حيث أتى، وهذا ما حدث في مختلف المستعمَرات السابقة في آسيا وأفريقيا. وفي إسرائيل، إذا ما استمرّت موجة النزوح هذه وتعمّقت، فلن يبقى على المدى الطويل إلا مجانين اليمين الأصولي المتطرّف والحريديم الذين سيعمّقون عزلة إسرائيل الدولية ويعجّلون بنهايتها.
وفي مقابل هذه الدروس والتحوّلات، سواء من ملحمة «الطوفان» أو من حرب الإبادة الجارية، لا بد من الإشارة إلى ظواهر عدّة لدينا ظهرت في هذه الحرب، بعضها مُتوقَّع وبعضها غير مُتوقع. فمن الظواهر المتوقّعة مثلاً ظاهرة شعور أيتام إسرائيل بين ظهرانينا بالحنق الشديد من الصمود المذهل للمقاومة في غزة، ومن إيلام جبهات الإسناد التي أشعِلت من قبل مختلف مكوّنات محور المقاومة لإسرائيل، وبالتالي من المآلات الوخيمة المتوقّعة لإسرائيل في نهاية هذه الحرب. وما التصريحات الهذيانية في هذا الشأن لبعض أحفاد آل الجميل وآل شمعون في لبنان، والذين تحوّلوا إلى نسخ كاريكاتورية مضحكة عن آبائهم وأجدادهم، سوى نماذج فاقعة عن هذه الظواهر التي لا تقتصر على لبنان بل تتعداها إلى بعض دول الجوار والخليج. ومن الظواهر المتوقّعة أيضاً هناك إصرار بعض الليبراليين العرب، وخصوصاً المتحدرين من أصول يسارية سابقة من بينهم، على «نبذ العنف» ومساواة عنف الضحية الفلسطيني بعنف الجلاد الإسرائيلي وعلى لوم هذه الضحية على التسبب بما حصل لها، تماماً مثل لوم ضحايا الاغتصاب، وعلى التمسّك بالإبقاء على قضايا اجتماعية معينة، مثل قمع النساء في إيران مثلاً، على رأس جدول الأعمال في النقاش العام وإعطاء هذه القضايا الأسبقية على حرب الإبادة في غزة.
أمّا الظواهر غير المتوقّعة والمحزنة في آن معاً، فيبرز منها هذا الإصرار الغريب على العداء المتبادَل بين بعض ألدّ أعداء إسرائيل في الوطن العربي من جهة، ومحور المقاومة المدعوم من إيران من جهة أخرى. وقد وصل الأمر إلى حد تجاهل دور إيران في تبنّي جميع حركات المقاومة في المنطقة سواء داخل فلسطين أو خارجها، وإلى التقليل المتعمّد من أهمية وجدية جبهات الإسناد المفتوحة من قِبل مكوّنات محور المقاومة في جنوب لبنان وفي اليمن، لا بل وصل الأمر أيضاً إلى حد نفي علاقة ليلة الرد الصاروخي الإيراني على إسرائيل في منتصف نيسان الماضي بالحرب الإبادية الإسرائيلية على غزة.
طبعاً يتوجب القول هنا بأن هناك من الأقلام المحسوبة على بعض مكوّنات محور المقاومة من لم يقصّر في مهاجمة وتخوين بعض أعداء إسرائيل على مدى سنوات. وهذا أمر مؤسف وعلى الطرفين واجب تفاديه لأن ميزان القوى بيننا وبين إسرائيل والغرب الاستعماري من ورائها يوجب علينا ألّا تقتصر «وحدة الساحات» على وحدة ساحات عسكرية فقط بل أن تتعداها إلى وحدة ساحات تتسع لجميع أعداء إسرائيل في الأمّة بل تتعداها لجميع أعداء إسرائيل حول العالم.
والحاجة الملحّة إلى حلّ هذا الأمر لا تنبع فقط من حقيقة أن النظام الإسلامي في إيران يعادي إسرائيل منذ وصوله إلى السلطة في عام 1979 وأنه يتبنى منذ ذلك الوقت جميع حركات مقاومة إسرائيل في المنطقة، بل إن الأهمية القصوى لهذا الأمر تنبع أيضاً من كون إسرائيل قوّة نووية، وهذه معضلة كبرى ما زالت ماثلة أمامنا (كما شرح الراحل الكبير جوزيف سماحة بالتفصيل في كتابه المرجعي «سلام عابر: نحو حل عربي للمسألة اليهودية»)، ومن حقيقة أن الأمل الوحيد في المدى المنظور لإيجاد التوازن النووي بوجه إسرائيل هو عبر امتلاك إيران للسلاح النووي، وهو ما نتمنى أن تكون إيران سائرة في اتجاهه.
ولذلك، فإن من يعطي الأولوية لمواجهة إسرائيل لا يمكن له أن يستمر في الإصرار على العداء لإيران في ظل حرب الإبادة الجارية على غزة وفي ظل المواجهة الكبرى الجارية حالياً في المنطقة.
وفي الختام، يبقى علينا أن نتوجه إلى المقاومة في فلسطين بأنه يكفينا منها أنها أعادت لنا إيماننا الأصلي بتحرير فلسطين، كل فلسطين، وبأن فلسطين حتى لو لم تتحرّر على أيامنا فإنها ستتحرّر على أيام أولادنا الذين سيدخلونها محرَّرة ويتذكّرون إيماننا هذا ويتذكّرون أننا أورثناهم إيّاه.
* كاتب لبناني