مضت تسعة شهور منذ بدء الحرب الإسرائيلية الدموية على غزة، وما زال بعض رؤساء العالم حين يتحدثون عن نتائجها المروّعة يؤكدون، على حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها. هكذا فعلت يوم الاثنين الفائت كامالا هاريس نائبة الرئيس الأمريكي، في مقابلة صحافية أبدت فيها تفهمها لمشاعر المحتجين المتضامنين مع فلسطين، لأنهم «يظهرون بالضبط ما ينبغي أن تكون عليه المشاعر الإنسانية كردّ فعل على غزة»، لكنها أكّدت، على أنها والرئيس الأمريكي كانا «متفقين ومتسقين منذ البداية على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» وأضافت: «لقد قتل عدد كبير للغاية من الفلسطينيين الأبرياء».
من المؤسف أن نسمع هذه التصريحات، بعد أن ثبت بشكل قطعي أن هدف الحرب الإسرائيلية يتعارض مع جميع المبادئ الإنسانية والقانونية والسياسية والعسكرية المتعارف عليها دوليا، ولا يمكن إدراجه تحت تعريف الدفاع المشروع عن النفس. سيبقى مصير غزة مرهونا بعدد من المعطيات، وما تخطط له وتعكف إسرائيل وحلفاؤها في المنطقة وفي العالم، على إنجازه وفرضه كواقع جديد من شأنه أن يؤثر على مستقبل وشكل الدولة الفلسطينية العتيدة، وربما على صورة المنطقة برمتها. وإذا تركنا مسألة «اليوم التالي» جانبا، نستطيع أن نسجّل بعض الملاحظات حول انعكاسات هذه الحرب على أكثر من جبهة وساحة، وما أفضت إليه وكشفت عنه في تلك الساحات.
في غزة، اتَضح أن فلسطين اليوم هي فعليا اثنتان، رغم ما تدّعيه الفصائل الفلسطينية الوطنية والحركات الإسلامية، وفي طليعتها حركة حماس التي تتصرف في مواجهتها العسكرية مع إسرائيل، وخلال عمليات التفاوض الجارية حيال قضيتي المخطوفين ومن سيحكم غزة بعد انتهاء الحرب، كصاحبة الحق الوحيدة والشرعية بعيدا عن واجبها، أو حاجتها لإشراك منظمة التحرير الفلسطينية، التي انشئت كي تكون «ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني»، على ما عناه وما زال يعنيه هذا الشعار وعلاقته بوحدة النضال الفلسطيني، ومسيرة التحرر الوطنية، وإقامة الدولة الديمقراطية المستقلة. لست بصدد سرد تاريخ إشكالية العلاقة بين حركتي فتح وحماس، وانتقاله كصراع شامل حول فلسطين وحلفائها وأعدائها، وانعكاسات هذه الأزمة على مكانة منظمة التحرير؛ فمهما كانت ادعاءات الأطراف تبقى أولوياتها في الراهن الفلسطيني هامشية، إذ ما دام الانقسام الخطير قائما وآخذا بالاتساع والتعقيد، يبقى الشعب الفلسطيني هو المتضرر المباشر منه، وتبقى مصالحه وآماله في كنس الاحتلال وتحقيق الاستقلال مهددة بشكل حقيقي ووجودي. في الضفة الغربية المحتلة، اتضح، بعد مرور هذه الأشهر، أن ما بدا في بدايات الحرب وكأنه وقفة محسوبة لاستيعاب محطة السابع من أكتوبر والهجمة الإسرائيلية الوحشية على غزة وهضمها، هو في الحقيقة عارض لحالة عجز مؤقتة مردّها خوف المواطنين والمؤسسات والقيادات الفلسطينية من ردة فعل الاحتلال الإسرائيلي المحتملة، التي قد تصل الى حدّ شروع الاحتلال بتنفيذ جرائم جماعية وعمليات تهجير قسرية واسعة. أمّا اليوم، بعد مرور هذه الشهور، اتضح أن هذا العجز لم يكن مجرد حالة عابرة ومؤقتة، بل هو واقع مؤسف ومتجذر، وله أسبابه المتراكمة منذ سنوات داخل المجتمعات الفلسطينية وله دوافعه التاريخية التي اشتدت مع ترسيخ مظاهر الانقسام الحماسي-الفتحاوي وما خلّفه من عداوات عصبية بغيضة، من جهة، وبفشل قيادات السلطة الفلسطينية بالتحرر من صيغ العلاقات السائدة مع الطرف الإسرائيلي، لاسيما التحرر من قضية ما يسمى «بالتنسيق الأمني»، خاصة في ظل تفاقم جرائم الاحتلال اليومية، وانفلات قطعان المستوطنين واعتداءاتهم الوحشية على القرى والمدن الفلسطينية، وتنكّر الجانب الإسرائيلي لاستحقاقات اتفاقية أوسلو ودفنها عمليا تحت جنازير الدبابات الاسرائيلية وبيوت البؤر الاستيطانية السرطانية المتزايدة، من جهة ثانية.
بعد هذه الشهور التسعة يتضح إذن، أن ليس لدى حكومة إسرائيل أي مخطط لإنهاء الحرب سوى الشروع في حرب أخرى، وأنها ما زالت دولة السيف
يفتش الكثيرون عن المسؤول عن توصيل قضية فلسطين العادلة إلى قعر هذه الهاوية؛ ومعظم هؤلاء، من متابعين ومحللين، يكتفون ويصرون على تحميل كامل المسؤولية لقيادات السلطة الفلسطينية، ولا يتساءل معظمهم ولا يسألون أين وكيف ولماذا غابت سائر قيادات وكوادر العمل الوطني الفلسطيني؟ أو أين هي قيادات وجماهير ومؤسسات اليسار الفلسطيني؟ أو لماذا حيّدت النخب الواعية والمثقفين والمفكرين والمنظرين أنفسهم عن ساحات المواجهة ومواقع التأثير؟ أو أين هي مؤسسات المجتمع المدني والنقابات.. فلا يمكن إعفاء جميع هذه الأجسام وكوادرها، خاصة أن بعضهم كان قد ساهم بتشكيل الحالة الفلسطينية الراهنة المترهلة، إما بصمته أو بتواطئه أو بعزوفه الطوعي، أو باحتمائه بعباءاته الأكاديمية وبخيرات مراكز الأبحاث الغربية والعربية والإسلامية. أخذوا يراقبون من بعيد عملية السقوط وينتقدون ويهاجمون السلطة، دون أي فعل ولا تأثير. لا يجوز إعفاء جميع هؤلاء وإغفال دورهم في حدوث الفاجعة. ستبقى قيادات منظمة التحرير ومعها قيادات السلطة الفلسطينية هي المسؤولة الأولى والمباشرة عما يجري، في الضفة المحتلة تحديدا، ولكن من يكتفي بكيل هذه التهمة والتوقف عندها وحصرها على أعتاب منافع السلطة الفلسطينية ورجالاتها، ويعفي سائر من ساهم في شرذمة الكل الفلسطيني، خاصة من استدفأوا بحضن الخليفة التركي مرة واستجاروا بعصا السعودية مرّة أو استهدوا بمال قطر حينا أو استعطفوا رضا الإمارات حينا أو تلحّفوا برضا «الخواجات» حينا اخر – من يعفي جميع هؤلاء مما جرى ويجري لفلسطين، سيكون متجاهلا الواقع وما حدث وما زال يحدث فيها، ولا يطلب الخير لها ولمستقبل شعبها.
في إسرائيل جرى الكثير من المتغيرات اللافتة والمهمة؛ فقد اتضح أن ما بدأ كعملية تحظى بإجماع شعبي ومؤسساتي واسع، ورغبة بأن ينجح الجيش بترميم هيبة الدولة واستعادة قوة ردعها، التي نسفها هجوم السابع من أكتوبر، لن يحصل. لقد بدأت قطاعات يهودية واسعة تؤمن بأن نتنياهو حوّل الحرب على غزة الى «لعبته» الشخصية من أجل إرضاء وزراء حكومته المتعطشين للتخلص من الفلسطينيين؛ ولإنقاذ نفسه مما ينتظره في المحاكم وأمام لجان التحقيق. تشهد شوارع إسرائيل، منذ أسابيع، تظاهرات عارمة ضد الحكومة تطالبها بإعادة المخطوفين. بدأت شعارات هذه المظاهرات تتدحرج وتخرج عن نطاق الحرب في غزة، ومسألة المخطوفين وتأخذ مناحي سياسية أوسع، حتى انها أفرزت مؤخرا قوة سياسية جديدة يسعى قادتها الى تأطيرها في حركة سياسية، بدءا بعقد «مؤتمر اليسار الإسرائيلي» الذي حضره مؤخرا ما يقارب السبعة آلاف شخص. لا يستطيع أحد أن يراهن إلامَ ستصبح إسرائيل في الاشهر القريبة المقبلة، خاصة بعد أن خسرت، بسبب جرائمها في غزة وفي الضفة المحتلة، مكانتها «كالضحية المطلقة الوحيدة في العصر الحديث»؛ وصارت شعوب وحكومات كثيرة في العالم تعتبر أن الفلسطينيين هم الضحية الحقيقية في أيامنا. كل الاحتمالات واردة؛ فإما أن تنجح بعض القوى اليهودية التي بدأت تخاف على مصير دولتها باقتلاع حكومة نتنياهو وفكرها واستبعادها عن مقاود السلطة وبناء سلطة بديلة قادرة على تناول المسألة الفلسطينية وحلها، وإما أن تنجح حكومة نتنياهو وفكرها بالبقاء، لا في الحكم وحسب، إنما داخل أنفاس كل مواطن وتكمل عملها كما فعلت جميع أنظمة القمع الديكتاتورية في العالم.
ويبقى الغد في «ظهر الغيب»
في إسرائيل أيضا، اتضح أن معظم المواطنين الفلسطينيين تخطوا مرحلة الخوف «والصمت الناضج والمسؤول» الذي اختاروه بوعي بعد السابع من أكتوبر مباشرة؛ تخطوه ليعودوا إلى حالة عجزهم «الطبيعية» حيث لا شيء لافت يحدث بينهم سوى استعار نار الجريمة ووقوع ضحاياها بشكل يومي، بينما هم ماضون في مراسم حياتهم بتلقائية مزعجة، وسط غياب حالة قيادية قادرة على مواجهة المخاطر.
بعد هذه الشهور التسعة يتضح إذن، أن ليس لدى حكومة إسرائيل أي مخطط لإنهاء الحرب سوى الشروع في حرب أخرى، وأن اسرائيل ما زالت دولة السيف حتى لو برق لوهلة في سمائها «العقل والقلم». ويتضح أن غزة تغرق ببحور من الدماء والصمود والأماني، وأن مصيرها معلق بأعناق قادة حماس وما يدبرونه؛ وهيهات نعرف ما يدبرونه؟ ويتضح أن الفلسطينيين في الضفة ينامون بين لعنة ومستحيل: لعنة تنسيق أمني غير مفهوم، وتنسيق مع أصحاب غزة معدوم. ويتضح، أن غدنا، نحن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، معلق هو أيضا «بظهر الغيب» فهل يفيق «خيامنا» قبل فوات الأوان لأنه ليس «في طبع الليالي الأمان».
كاتب فلسطيني